بعض طلبة العلم تشعر أنَّ حياتهم كلها متمحورة حول الأوراق والكتب ونقولات العلماء، حتى إنّ تصوراتهم الفكرية للحياة لا تتجاوز الأوراق؛ ومثل هؤلاء كيف يُرتجى منهم أن يقدموا نفعهم لمجتمعاتهم...
وإذا ما خوطبوا بسؤال الإصلاح؟
ينتضل المرء منهم عدّته للإجابة عن ذلك بقوله: ليس مطلوباً من طالب العلم أن يكون مؤثراً في مجتمعه، فهو حسب زعمه لا يتحدث إلا لخاصة الخاصة كما يُقال، وقد يُتفق معه في هذا القدر، لكن لن نتفق مع من يقرأ مئات المجلدات؛ وليس مستعداً أن يخرج من بيته عدة ساعات للتأمل في خلق الله وملكوته، أو يعايش الناس،ويبصر تصرفاتهم، ويخبر تجاربهم ويبلو أخبارهم ويجالس الحكماء وكبار السن ويسمع منهم، بل يُقصر في حقوق أرحامه وأقاربه وجيرانه...
وأنا أجد أنّ هذا خلل في التوازن النفسي والمعيشي، فإنّ طول العزلة والبقاء في المكتبة والبعد عن ضوضاء الناس ومعايشتهم قد تكون مريحة للبعض، لكنها لن تكون معينة على صنع الرأي السليم وبناء التصورات المفيدة..
كذلك فإنّه طالما وجدت بعض من جالس الكتب وصاحبها ولم يُخالط أهل العلم والفضل؛ ويعوّد نفسه على ( الخلطة الآمنة ) و (الأدوار الاجتماعية المؤقتة) فقد تؤدي بهذه هذه العزلة إلى روحٍ كئيبة وإعاقات نفسية وامتناع عن فهم كثير من الأدوار الاجتماعية المناطة بالمكلّفين...
بل ثمّة فتق في فهم خيوط الحياة؛ إذ يفهمها بعضهم بروحٍ أنانية فردانية تتمحور حول ذاته فقط، وبهذا تُفسّر فعل بعضهم حين يستعلي على غيره ويتكبر في خطابه معهم، ويغضب لأقل درجة من درجات الاستفزاز في مواقع التواصل وغيره ظاناً أن كثرة القراءة أو اعتزاله لأجل المطالعة يُوجب على غيره أن يحترمونه، وهو لا يعلم أنّ جلّ الناس لا تعطي لمثل هؤلاء قدرهم بل يظنون أنّ من عايش كتبه ( فاضي أشغال) أو أنّه (خارج نطاق التغطية) وأنّ لازمة القراءة لابد أن تكون بسبب دراسة جامعية أكاديمية أو شغل ( وظيفة أو بزنس) ولهذا يستغربون من وجود من يلتزم مكتبته ويهرع إليها؛ ويظنون يعيش (الدور) الخاص به؛ وهذا تصور كثيرٍ من الناس، رُغم أنّه تصورات أكثرها خاطئ ومسيء كذلك.
المشكلة لم تعد متصلة إلى هذا الحد من بعض طلبة العلم ؛ بل بعضهم يرفض الصلاة في المسجد جماعة متذرعة باعتبارات عديدة، منها أن فلاناً لو رآه مصلياً لسأله عن مسألة، أو لاحتاج له آخر بحل مشكلة اجتماعية، أو من يرى أنَّ الذهاب والإياب فيه مضيعة للوقت وأن الأحفظ لصلاته في مكتبته وبيته..
هل في هذا تحقير من شأن الإقبال على القراءة؟
وهل يُفهم من ذلك التقليل من شأن التزام المكتبة ومواصلة الساعات بالساعات للقراءة؟
أظن أنّ القارئ المنصف لن يصل إلى هذه النتيجة الخاطئة..
إنما القصد :
أنّ نتوازن في تصرفاتنا لكي تنضبط تصوارتنا...
أن نتعامل مع الحياة كما هي وليس كما نريدها أن تكون..
أن نعرف أن أبرز من برزوا في تصانيفهم ومؤلفاتهم كانوا أهل علم وخلطة، فقد رحلوا البلدان تلو البلدان سعياً لطلب العلم وفي تلك الرحلات دوّنوا تجاربهم وكتبوا كثيراً من خواطرهم، وبنوا تصوراتهم، ولم يستفيدوا علماً فقط بل استفادوا معرفة لطبائع الشعوب وحقيقة الحياة..
لقد أدرك عكرمة مائتين من أصحاب النبي، وروي عنه سبعون من جلّة التابعين، وكان عالماً بالتفسير، وفسر القرآن، وبالفقه، وكان يقول: "إني لأخرج إلى السوق فأسمع الرجل بالكلمة فيفتح لي خمسون باباً من العلم"
لا غرو بعدئذٍ أن نرى عدداً من علماء الإسلام ومفكريه يحثُّون طلبة الشريعة على فهم ودراسة علم الاجتماع وما يلتصق به من تفرعات نفسية أو سياسية أو اقتصادية أو تربوية، وغيرها؛ كي يكون لديهم معرفة بعلوم الدين والدنيا؛ كما أوضحه الأستاذ والشاعر الهندي المشرقي محمد إقبال؛ فيما يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: "أنّ من أسباب ضعف الباحث الفقهي عدم عنايته بعلوم الاجتماع مع حاجة الأمة له".
فالخبرة والمهارة والمعرفة بشؤون المجتمع مما يجعل المرء مقتدراً على فهمه على النحو الصحيح؛ ومن لم يكن أهلاً لذلك لم يستطع أن يؤدي رسالته؛ وقد جعل الإمام ابن تيمية بعض مسائل القتال والحرب من هذا القبيل فقال ابن تيمية: "والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا فأما أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا".
وبالله التوفيق،،
https://t.center/aquds