من الأمور التي أظن أن لها الأثر النافع على القلب في رمضان، هو التركيز في كل يوم على ذكر واحد، ودعاء واحد، يلهج بهما آناء الليل وأطراف النهار. فإن ذلك أجمع للقلب وأدعى للحضور والخشية والإخبات، وأمعن في تذوق الذكر، والعيش معه، والإكثار منه!
وهو كذلك في أمر الدعاء أدعى لولوج باب الافتقار والحاجة والإلحاح والذل والانكسار لله!
فإن جمع القلب كل يوم على ذكر واحد أنفع له من تفرقه بينها جميعا بغير تذوق ولا حضور ولا إخبات. وهذا في أوقات الذكر المطلق، بغير أذكار الصباح والمساء، والاستيقاظ والنوم، وعقب الصلوات المكتوبة، والأذكار ذوات الأسباب!
ولا أقول أن لذلك فضيلة في الدين فيكون بذلك بدعة، ولكن أقول أنه له الأثر النافع على من جربه، ولا أحسب أن في هذا مخالفة إن شاء الله. وقد روي أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - كان يطوف بالبيت وليس له دأب إلا هذه الدعوة: (رب قني شُحَّ نفسي، رب قني شُحَّ نفسي). فقيل له: أما تدعو بغير هذه الدعوة؟ فقال: (إذا وُقِيتُ شُحَّ نفسي فقد أفلحت). يشير إلى قول الله تعالى: "وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".
جرب مثلا أن تكثر تقول في يوم: - لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. وفي آخر: - لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وفي ثالث: - لا حول، ولا قوة، إلا بالله العلي العظيم. وفي رابع: - أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه. وفي خامس: - صلاة على النبي وآله، صلى الله عليهم وسلم. وفي سادس: - لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم. وفي سابع: - سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم. وأكمل الشهر على هذا النحو!
كذلك قم بتحديد أدعية جامعة بعدد أيام الشهر والهج في كل يوم بأحدها، وهو شهر كريم، بلغناه رب كريم جواد وعسى أن نكون وإياكم عند الرحمن من المقبولين!
- لا تنسوا الدعاء لإخوانكم في الأرض المقدسة الطيبة بالنصر والثبات، ورفع البأساء والضراء عنهم، والدعاء على الطغاة والظالمين أن يقصم الله عز وجل ظهورهم، ويطهر الأرض من دنسهم، وأن يمكن لعباده الصالحين!
- ومنها الاغتيال: لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي).
- وفي هذا الحرب الحصون: كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث نبي الله يحيى بن زكريا وقوله لبني إسرائيل: (وأمركم بذكرِ اللهِ كثيرًا ومَثلُ ذلك كمثلِ رجلٍ طلبه العدوُّ سِراعًا في أثرِه حتَّى أتَى حصنًا حصينًا فأحرز نفسَه فيه وكذلك العبدُ لا ينجو من الشَّيطانِ إلَّا بذكرِ اللهِ).
- وفيها الجوار الحقيقي: ومن ذلك قول أبي الدرداء عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما (أليسَ فِيكُمْ -أوْ مِنكُمْ- الذي أجَارَهُ اللَّهُ علَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ يَعْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ).
- وفيها الخسائر الفادحة: أن بعث النار تسعمائة وتسعة وتسعون من كل ألف، وواحد في الجنة. قال تعالى:(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ ۖ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ۚ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ۖ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ).
ومما يزيد الشعور بهذه الحرب رهبة أن نعلم أن هذا الواحد الذي نجا من بين الألف؛ لم تتحقق له النجاة إلا بفضل الله ورحمته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
ومن هنا كان من حقائق تقييم هذه الحرب: فرح الله عز وجل بعباده الناجين منها، بدليل قوله( لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن...).
برايته، فلم يزل تحت راية الشيطان، حتى يرجع إلى بيته).
- وكما ترفع الراية في أماكن الانتصار، فهي ترفع في أماكن الاحتلال: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا تَكونَنَّ إنِ استطعتَ ، أوَّلَ من يدخلُ السُّوقَ ، ولا آخِرَ من يخرُجُ مِنها ، فإنَّها معرَكةُ الشَّيطانِ ، وبِها ينصِبُ رايتَه)، وفي حديث آخر: (أبغض البلاد إلى الله أسواقها).
- وفي هذه الحرب العنف والشدة، قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا).
- وفيها التربص والترصد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الشيطانَ يَحضُرُ أحدَكُمْ عند كلِّ شَيءِ من شأنِه).
- وفيها الاستطلاع والاستكشاف ومعرفة العدو، قال صلى الله عليه وسلم: (لمَّا صوَّر اللهُ تبارك وتعالَى آدمَ عليه السَّلامُ تركه، فجعل إبليسُ يطوفُ به ينظُرُ إليه، فلمَّا رآه أجوفَ، قال: ظفرتُ به خلقٌ لا يتمالكُ)
- وفيها الأفخاخ والشراك، لاستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم: (من شر الشيطان وشَرَكِه).
- وفيها التجسس من قبل الشياطين: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ). - وفيها الحراسة المشددة من قبل الملائكة والشهب:(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا)، (ۖفَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا)، (لَّا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ). - وفيها العمليات الانتحارية التجسسية من قبل الشياطين: مسترقوا السمع واحد فوق الآخر فربما لحق أحدهم الشهاب قبل أن يرمي بها إلى صاحبه: (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ).
وفيها التخفي: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ).
وفيها الأسر: ومنها أسر النبي صلى الله عليه وسلم لشيطان مر بين يديه وهو يصلي، فخنقه النبي صلى الله عليه وسلم حتى وجد برد لسانه على يده، ولولا دعوة سليمان عليه السلام لربطه إلى سارية من سواري المسجد يطيف به ولدان أهل المدينة. ومنها قوله لأبي هريرة: ما فعل أسيرك البارحة؟ وإذا جاء رمضان؛ صفدت أو سلسلت الشياطين.
- وفي هذه الحرب عملية السحق الشامل؛ ففي الحديث القدسي: (وإنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ). - ومنها الاستئصال (لأحتنكن ذريته).
يحلو لكثير من الناس اتهام (النفس) بأنها العدو الأكبر للإنسان، وذلك لما يراه البعض من تقصيره وتهاونه أو إسرافه على نفسه في رمضان حين تصفد الشياطين، فيغالي في ذم النفس واتهامها حتى يقدِّم عداوتها على عداوة (الشيطان) مستدلا ببعض النصوص كقول الله عز وجل: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) وقوله تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)، وتجري عملية الاستدلال تلك بمعزل عن بقية النصوص، فينتج عنها ذلك الحكم الخاطئ!
لقد وُصف كيد الشيطان بالضعف في سياق مواجهة بين أولياء الله الذين آمنوا فهم يقاتلون في سبيل الله، وأولياء الشيطان الذين كفروا فهم يقاتلون في سبيل الطاغوت، فضعف كيد الشيطان وهنا إلى وحدة جماعة المؤمنين واعتصامهم وتحصنهم بركن الله العزيز وولائهم لربهم القوي المحيط، ضعيف إلى قدرة الله وتدبيره للمؤمنين وكيده بالكافرين.
والنفس وإن جاء وصفها بالذم في كثير من النصوص والآثار، فإنها قابلة للترويض والتهذيب والتزكية، فقد أقسم الله تعالى بعدة من عظيم مخلوقاته وآياته على ذلك في سورة الشمس، ثم قال: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا). ومنها النفس اللوامة التي أقسم الله عز وجل بها، والنفس المطمئنة التي وعدها سبحانه بالرضوان والجنان.
لقد أخبرنا الله عز وجل أن الشيطان هو عدونا الأول، فهو الذي أخرج أبوينا من الجنة: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ...). وقد حذرنا الله عز وجل أن تحرمنا فتنة الشيطان من دخول الجنة كما أخرج أبوينا: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ...).
والوحي زاخر بالنصوص التي تصرح بعداوة الشيطان للإنسان وتصف تلك العداوة بأوصاف بالغة التعبير تجلي صورة تلك العداوة بينهما على أنها معركة حربية طاحنة عظيمة الشراسة محتدمة غاية الاحتدام، معركة غابرة موغلة في القدم قد بدا أوارها منذ نفخ الله الروح في جسد أبينا آدم عليه السلام، أو ربما حتى من قبلها، معركة سرمدية حتى يُنفخ في الصور وتقوم الساعة.
- أحب لكل مسلم أن يقرأ كتاب "عندما ترعى الذئاب الغنم" للشيخ رفاعي سرور رحمه الله تعالى. وليس أقل من أن يقرأ الفصل الأول من الجزء الأول (حوالي ١٠ صفحات فقط) وهو يصور ويصف العلاقة الحقيقية بين الإنسان والشيطان من نصوص القرآن والسنة تصويرا ووصفا جليًا بترتيب فريد بديع، ونلخص منه بشيء من التصرف والإضافة ذلك الوصف لصور العداء:
(صورة قتالية) هذه صورة العداء القائم بيننا وبين إبليس، حرب لها كل صفات وتقاليد ووسائل الحرب المعروفة في واقعنا البشري:
- فالشياطين جنود إبليس سواء كانوا من الجن أو الإنس، قال الله تعالى: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (*) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ).. (جنود إبليس).
- علاقة هؤلاء الجنود من الشياطين بإبليس علاقة ولاء وطاعة، وهما أول الضرورات التنظيمية في أي حرب، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا).. (أولياء الشيطان).
- لإبليس مركز قيادة بعيد عن واقع القتال: (إن إبليس يضع عرشه فوق الماء) ثم (يبعث سراياه) السرايا: تشكيل قتالي منتقى لهدف محدد: (فيفتنون الناس)، وهنا مبدأ الثواب والعقاب:(فأعظمهم عنده منزلة أعظمهم فتنة).
- لإبليس آلة دعوة وإعلام وتوجيه تجذب إليه جنده وحزبه: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ)، ويبعث جنده ويجهزهم بأسلحة وتشكيلات الجيوش المعروفة والتي منها: سلاح الفرسان وأدواتهم الخيل، وسلاح المشاة (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ)، وبينه وبينهم شراكات قائمة لأجل تحقيق تلك الأهداف: (وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا).
- ومن أدوات هذه الحرب: السهام. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (النظرة سهم من سهام إبليس، يصيب بها قلب المؤمن).
- هذه الحرب فيها الرايات التي هي من تقاليد سيادة الجيوش وأعراف النصر والهزيمة، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من خارج يخرج - يعني من بيته - إلا ببابه رايتان: راية بيد ملك، وراية بيد شيطان، فإن خرج لما يحب الله عز وجل، اتبعه الملك برايته، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته، وإن خرج لما يسخط الله، اتبعه الشيطان
المسلم للناس تارة كالشمس والماء والهواء؛ يهبهم الضوء والدفء، ويروي موات قلوبهم لتحيا، ويكون كنسمة ربيعية عليلة تغذي الروح وتؤنسها وتلاطفها. بل إن دور المسلم لأعظم نفعا للبشرية من تلك المخلوقات؛ فعلى تلك المخلوقات مدار دنيا الناس، ولكن المسلم رسول ابتعثه الله وحمَّله رسالة الإسلام وأمانة البلاغ، ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
وأبهى ما يتجلى فيه دور المسلم ذلك: مقام "الدعوة إلى الله" ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
وكذلك المسلم جندي من جنود الله، وكما يوالي ويحب في الله وينفع من تنفعه الذكرى بإذن الله، فإنه يعادي ويكره في الله؛ فتارة يكون كالطير الأبابيل، أو كالبحر الهائج المائج المغرق المهلك، والإعصار الذي فيه نار ورعد وبرق؛ يرسله الله على أهل الطغيان والكفر ممن يعادون الحق، ويحجبون الهداية والنفع والفلاح عن باقي الخلق، ويعبِّدونهم بالجهل والغرر لكل طاغوت من دون الله يسومهم بظلمه سوء العذاب في الدنيا، ويورثهم بجهالتهم دركات النار في الآخرة إن هم تابعوه. ولسان حال المسلم في ذلك المقام قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذَرين" وأظهر ما يبرز فيه دور المسلم ذلك: مقام "الجهاد في سبيل الله" (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۚ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
من كان صالحا؛ نال في كل يوم حظا من دعاء كل مسلم يصلي ويتشهد فيقول داعيا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين! فإن كل عبد صالح يأتيه نصيب يغشاه قائما وقاعدا من سلام الله عليه، بسؤال المسلمين له السلام، ولعل من مات منهم كذلك لم تنقطع بموتهم أعمالهم، فيصلهم رزقهم من سلام الله عليهم، بتكفير الذنوب، وفك الكروب، ورفعة الدرجات، كلما قال مسلم: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين!
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكبِرون ويخشون أن يكون بعضهم في طرف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في طرف آخر، ليس في باب الهدي والمنهاج، ولا في باب الولاء والنصرة، ولا في باب الشرعة والاحتكام، وإنما في (مسابقة رمي بالسهام)!
فكيف بمن يزعم أنه مؤمن وهو يخاصم هديه ومنهاجه، ويخاصمه في باب الولاء والنصرة، ويعاديه في باب الشرعة والاحتكام؟!
فقد روى البخاري في صحيحه من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال: "مَرَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى نَفَرٍ مِن أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ، فإنَّ أَبَاكُمْ كانَ رَامِيًا ارْمُوا، وأَنَا مع بَنِي فُلَانٍ قالَ: فأمْسَكَ أَحَدُ الفَرِيقَيْنِ بأَيْدِيهِمْ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما لَكُمْ لا تَرْمُونَ؟، قالوا: كيفَ نَرْمِي وأَنْتَ معهُمْ؟ قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ارْمُوا فأنَا معكُمْ كُلِّكُمْ.
إنما السكوت ضعف ولاء لله تعالى، قبل أن يكون ضعف ولاء لصفوة المسلمين وخيرتهم، وهو زاد الطغيان وجلَّاب البلايا والنقم!
ويحك أيها المسكين! تظن أن إخوانك أحوج إلى نصرتك من حاجتك أنت إلى نصرتهم، والله لأنت أحوج إلى نصرتهم من حاجة أضعف من فيهم وأقلهم يدا إلى نصرتك!
إذا لم تكن على قدرة من نصرتهم بيدك ونفسك ومالك، فلا أقل من أن تنصرهم بقلبك ولسانك، وأن تنكر على من حاصرهم وجوعهم من منافقينا - أذاقهم الله لباس الخوف والجوع وصب عليهم بأسه ونكاله.
فإن هذا الإنكار قدر وسعك هو سبيلك إلى النجاة؛ ألم تر أن الله تعالى قال: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
كل نظرة إلى أمر دنيوي لا يستحضر صاحبها فيها المشهد الأخروي كاملا بتفاصيله وجزئياته هي نظرة شقاء لا يسع قلب إنسان تحمله، وهي كذلك نظرة تعمية غافلة وتضليل إدراك، لذا جاءت نصوص الوحيين الشريفين بتكرار التنبيه والحث على إكمال النظرة باستحضار مشاهد الآخرة مفصلة، بل بالحض على رؤية المشهد الدنيوي كاملا كطيف عابر بين عرصات ذلك النبأ الأخروي العظيم!
ومن ذلك قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضَرسُ الكافرِ يومَ القيامةِ مِثلُ أُحُدٍ، و عَرضُ جلدِه سبعون ذراعًا، و عَضُدُه مثلُ البيضاءِ، و فَخِذُه مثلُ وَرْقانٍ، ومقعدُه في النَّارِ ما بيني و بين الرَّبَذَةِ".
إن المسافة بين إفاقة الأمة من مرضها وغفوتها، وبين توليها زمام أمرها واستعادة هيبتها مجددا؛ هي ذات المسافة بين (المسلم العادي) وعزمته ليُحَمِّل نفسه رسالة هذا الدين ويحمل قضاياه بتكاليفها وواجباتها وهو راضٍ محب.
في قصة أصحاب الأخدود؛ أجرى الله للغلام آيات تكسر قانون الأسباب حينما كان داعية طور التكوين:
- قتل الدابة بإذن الله، حتى تيقن من خيرية أمر الراهب ودعوته، ومن الشر المبير المستطير في أمر الساحر!
- أعطاه الله من الآيات ما يكسر قانون الأسباب مثل (القدرة الشفائية بإذن الله)، وذلك حين كان المجتمع على الكفر والضلال، فكان بحاجة إلى عون إلهي عيني مُعجز يحبب الغلام إلى الناس ويرفع قدره بينهم ليقدر على إبلاغهم دعوته!
- ومن الآيات: (رد البصر لجليس الملك الأعمى)!
ثم عزز الله أمره بأن حطم له قانون الأسباب مرات أخرى:
- نجَّاه الله من الجبل، إذ صعده الجند به ليردوه من أعلاه!
- ونجاه الله من الغرق، إذ توسط به جند آخر البحر ليغرقوه!
في كل مرة، رجع الغلام يمشي إلى الملك، يدفع إليه خبر جنده الذين هلكوا، ويعلمه بنجاته التي تحال في عالم العقل والسبب!
- ثم كان (عجز الملك الظالم عن قتل الغلام، إلا بسهم من كنانته، وبقول: بسم الله رب الغلام) معجزة أخرى تخرق قانون الأسباب!
فلما قُتِلَ الغلام، وآمن الناس، وشق لهم الملك الظالم أخدودا عظيما، وأضرم فيه النيران، وألقاهم به - لم يكسر الله قانون الأسباب لينجيهم هذه المرة!
بل حينما حدث ذلك الكسر مجددا لقانون الأسباب - لم يكن لينجيهم، بل ليحثهم على الصبر - في حادثة الرضيع الذي تكلم ليحث أمه على الصبر والإقدام على الموت في سبيل الله! ندرك من هذا: أن النجاة الحقيقية هي في ذلك الموت النبيل في سبيل الله، لا في البقاء الدنيوي الذي ينهيه الموت ولو بعد حين. وما كانت تلك الخوارق لقانون الأسباب ونجاة الغلام في الدنيا إلا بالقدر الذي يمكنه من بلوغ مراده في دعوته وهي نجاة المجتمع الحقيقية التي تكمن في الموت في سبيل الله فتتحقق بذلك نجاتهم وفوزهم في الآخرة، فلما تم له ما شاء الله أن يتم - قبضه مقتولا في سبيله، ثم قبض تلك الثلة المؤمنة مقتولة - قتلة دنيوية شاقة - بالحرق في سبيله.
فالنجاة الحقيقية (الموت في سبيل الله) فقد نجا من نالها وإن توهم الناس موته! (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).
الطغيان من أعظم أسباب المحق والخسران في الدنيا والآخرة، وسكوت الناس عنه من أعظم أسباب عموم البلوى والعذاب، وإن تغيير القوم ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم من سوء: هو بأن يقلعوا جذور الفساد والطغيان فيبدل الله أحوالهم إلى ما فيه خيرهم ورشدهم، وليس بأن يقعد كل واحد منهم في صومعة يتحنث!
المصلحون أمنة للناس في الأرض من عذاب الله، وإذا أراد الله بقوم سوءًا قبضهم، أو جعلهم بمفازة، ثم قضى إلى قومهم ما قضى، فإذا حبسهم الناس أو أخرجوهم وطردوهم فكأنهم قد استمطروا عذاب الله عليهم، وألحُّوا في طلب المحق، وأقاموا أسباب الخسران! فإن المصلحين ضرب من النُّذُر رقيق رفيق، فإن قدمهم الناس وأخذوا منهم نجوا، وإن قهروهم وطردوهم؛ جاءهم ضرب آخر من النُّذُر غليظ شديد، كان وبالا عليهم، فإذا تضرعوا وأنابوا؛ رفع الله عنهم البأساء والضراء، وإذا قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون؛ جاءهم ما لا قبل لهم به، فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذَرين!
إن دفاعكم عن المصلحين دفاع عن أنفسكم، ودفع للبلاء والمحق والعذاب عنكم!
من لم يرض بالإسلام نظاما للحياة مهيمنا حاكما على الفرد والمجتمع، بمؤسساته ونظمه، بقوانينه وتشريعاته، بسياسته واقتصاده، وإدارته وإعلامه، وثقافته وتعليمه وكل نشاط فيه؛ فإنه قد رغب عن الإسلام وابتغى غيره دينا، ولم يرض بالله عز وجل ربا، ولا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا.
فإن من معاني مصطلح الدين: أنه نظام ومنهج حياة، وقد قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
فمن ابتغى غير الإسلام عقيدة، أو شريعة، أو نظاما ومنهجا للحياة؛ فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
ثلاثة من كرام الصحابة ومن خيرة الناس، ويكفي للدلالة على فضلهم قول معاذ بن جبل رضي الله عنه عن أحدهم وهو كعب بن مالك رضي الله عنه، وذلك حين سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال معاذ رضي الله عنه: والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه أصحابه باعتزالهم؛ فاعتزلهم المسلمون ولم يكلموهم، وحيل بينهم وبين أزواجهم، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، كان ذلك لأنهم تخلفوا عنه صلى الله عليه وسلم في ساعة العسرة: (غزوة تبوك)، وهي غزوة لم يلق المسلمون فيها بأسا ولا حربا، وهؤلاء الثلاثة الكرام لم يخذِّلوا عن الخروج أحدا، ولم يلمزوا بأقوالهم أحدا، ولم تحبسهم نية سوء ولا رغبة في التخلف والقعود! ثم تاب الله عليهم بعدما قعدوا خمسين يوما في عزلة شاقة من الناس، كل هذا لأجل غزوة لم يجد النبي ولا المسلمون فيها شيئا يكرهونه ولا عدوا يقاتلونه!
فكيف بهؤلاء القاعدين المثبطين المرجفين المغموص عليهم في النفاق الذين يخذِّلون المسلمين وهم في خضم ضراوة الحرب والبأس والقتال والشدة والزلزلة؟!
قد كان بعض المنافقين في هذه الغزوة يقولون للمسلمين: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم لبعض؟!والله! لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال! وقد ذكر بعض أهل التفسير أن هؤلاء المنافقين هم الذين نزل فيهم قول الله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً)
اللهم إني أبرأ إليك منهم، وأشهد أنهم أهل النفاق الذين ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون!
كانت مكة أحب البلاد إلى رسول الله صلى الله عليه فلما تأبت على الإيمان بالله ورسوله وكتابه وشرعه كان مخرجه منها إلى غيرها بالتعبير القرآني (مخرج صدق)! ودخوله إلى البلدة التي آمنت وآوت ونصرت (مدخل صدق).
عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمكة، ثم أمر بالهجرة، فأنـزل الله تبارك وتعالى اسمه: ( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا).
من الثمرات الكبيرة لهذا الموقع أنه عرّفنا بأحبة نحبهم ونذكرهم بالخير وندعو لهم بظهر الغيب ونفقدهم إذا غابوا، رغم أننا لم نلق أحدهم في الواقع!
لم أكن أتوقع يوما أني سأتعرف على هذا العدد من الكرام الفضلاء من خارج قريتي فضلا عن محافظتي وبلدي!
ما كنت أتوقع أبدا أني سأتعرف على فضلاء من أهل سوريا، وفلسطين، ولبنان، والأردن، والعراق، وليبيا، والسودان، وتونس، والمغرب، والجزائر، وموريتانيا، وجزيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والصومال، وتركيا، وأننا سنبصر معهم قضايا الأمة عن هذا القرب بصر الشاهد الحاضر بنفسه ووجدانه وأهله وأحبابه! بل وحتى الكثير من فضلاء مصر لم أكن لأعرفهم لولا أن يسر الله معرفتهم والانتفاع منهم في كثير من أمور الدين والدنيا إلا عبر هذا الموقع!
وإن لنا أحبة أفاضل عرفناهم على هذا الموقع من أهل غزة الكرام الأماجد، انقطعت أخبارهم منذ بداية الحرب، ولم نعرف عنهم خبرا، فالله نسأل أن يكون جميعهم بخير وسلامة وعافية من الله في أنفسهم وأهليهم وأموالهم وأعراضهم، اللهم استر عوراتهم وآمن روعاتهم، واحفظهم بحفظك، وارعهم واحرسهم وانصرهم، واعذرنا إليهم حتى تكتب لنا سبيل نصرة فعلية لهم على عدوك وعدوهم!
تأخر إسلام الأصيرم عمرو بن ثابت بن وقش عن قومه بني عبد الأشهل، فأنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم حينئذ وقاتل فقتل قبل أن يسجد لله سجدة، فأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "عَمِلَ قليلا، وأُجِرَ كثيرا".