وقد اختلع-(الله تعالى)- المؤمن من الكون بالتدريج. فقال أولا: «قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ» (فأحفظهم) « عن الدنيا بالعقبى، ثم سلبهم عن الكونين بقوله: «وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى»
فأرشد سيد الأولين والآخرين ﷺ إلى معالي الأخلاق ودل على مفتاحها الأعظم وهو الصمت، الذي من ثماره قلة الخُلطة، وصيانة النفس من القيل والقال، وترك الكلام في كل شيء، واتخاذ الصمت أصلًا والكلام استثناء، إلا فيما يُرجى نفعه وتُحمد عاقبته. وهو الركن الأول من ثلاثة أركان جعلها النبي ﷺ باب النجاة، فقال: أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابكِ على خطيئتك".
وهو ملاك الأمر كله في صلاح العبد، كما في حديث سيدنا معاذ رضي الله عنه: أفلا أدلك على ملاك هذا كله؟ وأشار إلى لسانه!
فمن ضبط لسانه ضبط دينه واستقام له أمره! ومن اتخذ الثرثرة واللغو مغنمًا طال ندمه واضطرب عليه سيره وذهب عنه قلبه في أودية الخوض ومباءات السوء!
" لا طريقَ إلى حصول أي مطلوب من جلائل النعم ودقائقها إلا بالتطفل على موائد كَرَمِ مَن له الأمر !
وفي الإنجيل : سلوا تُعطَوا ، اطلبوا تجدوا ، اقرعوا يُفتَح لكم ، كل من سأل أُعطِي ، ومن طلب وجد ، ومن يقرَعْ يُفتحْ له . أوحى الله إلى موسى عليه السلام : قل للمؤمنين لا يستعجلوني إذا دعوني ، ولا يُبَخِّلوني ! أليس يعلمون أني أُبغض البخيل ، كيف أكون بخيلا ؟! يا موسى ! لا تخف مني بخلا أن تسألني عظيما ، ولا تستحي أن تسألني صغيرا ، اطلب إليَّ الدُّقَّة والعلفَ لشاتك! يا موسى ! أما علمتَ أني خلقتُ الخردلةَ فما فوقها ، وأني لم أخلق شيئا إلا وقد علمتُ أن الخلق يحتاجون إليه ، فمن سألني مسألةً وهو يعلم أني قادرٌ أعطي وأمنع أعطيته مسألته بالمغفرة . قال عروة بن الزبير : إني أسأل الله في صلاتي ، حتى أسأله الملح إلى أهلي " انتهى .
(ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها) ؛ لأنه المتكفل لكل متوكل بما يحتاجه ويرومه جل أو قل (حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع) ؛ لأن طلب أحقر الأشياء من أعظم العظماء أبلغ من طلب الشيء العظيم منه. ومن ثَمَّ عبَّر بقوله" ليسأل"، وكرره؛ ليدل على أنه لا مانع ثَمَّ ولا رادَّ لسائل.
ولأن في السؤال من تمام ملكه وإظهار رحمته وإحسانه وجوده وكرمه وإعطائه المسؤول ما هو من لوازم أسمائه وصفاته واقتضائها لآثارها ومتعلقاتها، فلا يجوز تعطيلها عن آثارها وأحكامها؛ فالحق سبحانه وتعالى جواد له الجود كله ، يحب أن يُسأل ويطلب أن يُرغب إليه؛ فخلق من يسأله وألهمه سؤاله، وخلق ما يسأله ؛ فهو خالق السائل وسؤاله ومسؤوله. [المناوي، فيض القدير، ٣٥٣/٥]
مادة ذم الناس والشكوى من الخلق والدنيا، والكلام عن ذهاب أخلاقهم=مادة ضخمة في تراثنا بفنونه كلها، وهي تلتمع أكثرَ ما تكون حين تصادف قلبًا حديث عهد بأذى وجحود! والكريم واللئيم كلاهما واجدٌ لنفسه تأويلا ودليلا، بالحق أو بالباطل! وإنما يُكثر الشكوى أكثر القلوب فراغًا من الأنس بالله والفرح به!
ولكنَّ النبي ﷺ لم يكن كذلك، وكل من سار خلفه واهتدى بنوره ارتفع عن هذا كله مستغنيا بالله!
ولو تأملت حاله ﷺ لوجدت أن صيامه عن الشكوى، واتساع نفسه ﷺ بالرحمة من آيات نبوته الشريفة ﷺ
أما بينك وبينَ الله، صل بالليل، عبادةَ إخلاص مناجاة صدق في مقام الصفاء، ترسيخاً لمعنى الذكر في فؤادك، وهي هي سندك فيما تبدي مِنْ تخلق، فالأخلاقُ لا قيمة لها إذا لم يكنْ منشؤها إيماني، أما محض مجاملات، [فهذه] أخلاق التجار وليس أخلاق الأبرار. ولذلك، نجدُ في القرآن: (وَعِبادُ الرَّحْمن الذينَ يَمْشونَ عَلى الأَرْضِ هَوْناً) فبدأ بالثمرات تواضعاً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً، فلم يقابلوه بنفس الجهل، فللمُوافق تواضع وللمفارق المخالف سَلام.
لابد لنا من التواصي بالصلاة؛ فإنها نور ، والصبر؛ فإنه ضياء! والصلاة عبادة معراجية، لا تزال ترفع صاحبها سرا وعلانية حتى يصل قلبه بمعارفه ومقامات الإيمان فيه إلى الملأ الأعلى، فلا يبقى فيه من أمراضه شيء، ولا يستطيع شيطان أن يصل إليه، " وحفظًا من كل شيطان ماردٍ لا يسَّمَّعون إلى الملأ الأعلى ويُقذفون من كل جانب". ولا ترسخ قدمُ عبدٍ في خير إلا وكان هذا الخير ثمرة الصلاة والقرآن: " والذين يُمَسِّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين".
سؤال: ربنا اللى خلق الحب وهو أجمل إحساس، ليه لما بنت تحب واحد مش من دينها لازم تتعذب وتنسى الحب؟ مع إن ربنا سبحانه وتعالى هوالذي وضع فى قلبها هذا الحب، وأكيد يعلم الله بما هو داخل كل واحد منا، ويعلم سبحانه أن هناك أناس ليسوا من دين بعض ولكن يحبوا بعضهم حب صادق، فلماذا يُفرِّق الله بينهم؟ أنا بحس إن أوامر ربنا أبسط بكتير من كل التعقيدات اللي بسمعها من ناس كتير. ========== الجواب/
يحب الله أن يرى من عبده إيثار ربه وتقديم ما يحب على ما يحب هو إن كان لا يوصل إليه إلا بالحرام.
ولقد ركَّب الله في العبد حب الشهوة واستحسان الجمال، والميل إلى الرقة، ومع هذا حرم عليه الوصول إلى هذه المحبوبات إلا على جسر من الحلال.
ربنا الرحيم يريد منا أن نكون أسوياء، لا تستعبدنا المشاعر ولا تأسرنا الأهواء، ولا تطغى بنا نوازع النفس فنكون مشوهين نعيش الحياة وبعض ما فينا ليس منا في الحقيقة!
ولن تتم تمامك إلا بأن يتوازن كل ما فيك بالقدر الذي لا يخلع عنك نعت العبودية.
فهذا الدين الرحيم: تعامل مع الإنسان مراعيا ضعفه وميله، شرط أن لا يكون هذا الضعف والميل سبيلا لانتقاص حظ العبودية لخالقه الذي أوجده وأنعم عليه فاستحق أن يكون حبه تعالى قبل كل حب وأعظم من كل حب.
وفي روايةٍ أنّه ﷺ قال: «لن يُنجِيَ أحَدًا منكم عملُه»، قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: «ولا أنا، إلّا أن يتغمَّدني اللهُ برحمةٍ. فسدِّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيءٌ مِن الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلُغوا». أخرجه البخاريّ (6463). وأصله عند مسلم (2816) أيضًا.
حديثٌ عجيبٌ، راسمٌ للخريطةِ، ناعتٌ للطّريق، آخذٌ بمجامعِ السّداد، طوىٰ منهجَ المسيرِ إلى اللهِ، في كُلَيماتٍ، لو فسِّرت لاحتملتْها دواوينُ وبقي منها فضلٌ. وقد شرَحه الحافظُ ابنُ رجبٍ في جزءٍ سمّاه «المَحَجّة في سير الدُّلجة»، كنتُ قرأتُه أيّامَ الحداثةِ، فكان مِن أعظمِ ما نفعني اللهُ به، وقوَّم تفكيري، وأغناني عن تخبُّطات المتخبّطين، ورجومِ المتخرِّصين.
ينبغي أن يتّسع تأمُّلُ المؤمنِ لهٰذا الحديثِ، ويطولَ فيه تفكيرُه، ثمّ يحملَ النّفسَ علىٰ ما فيه حملًا صادقًا، ويجعلَه نبراسًا له في المسير، ويدومَ امتحانُ عملِه به وعلمِه، وأن يتّصلَ استحضارُه له بعدَ إذْ مَنَّ اللهُ به عليه، ويتّخذَه مِيزانًا للحقائقِ لا يبخسُ ولا يعولُ. فإنّه ينجيه مِن متاهاتِ الأوهام، ويُؤمنُه مِن مُضِلّاتِ الأفهام، ويعصمُه أن يَغرَّه البريق، أو تأخذَ به بنيّاتُ الطّريق.
[ رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ]
والجميعُ مشتركون في الحاجة بل في الضرورة إلى مغفرةِ الله وعفوِه ورحمتِه، فكما يُحبُّ -أي: المسلم- أن يَستغفرَ له أخوه المسلمُ، كذلك هو أيضاً ينبغي أن يستغفرَ لأخيه المسلم، فيصير هِجِّيراه: ربِّ اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات وللمؤمنين والمؤمنات. وقد كان بعضُ السلف يستحبُّ لكلِّ أحدٍ أن يُداوم على هذا الدعاء كلَّ يوم سبعين مرَّة، فيجعل له منه وِرداً لا يُخلُّ به. وسمعتُ شيخَنا -أي: ابن تيمية- يذكرُه، وذكر فيه فضلاً عظيماً لا أحفظه، وربَّما كان مِن جملة أوراده التي لا يُخلُّ بها، وسمعتُه يقول: إنَّ جعلَه بين السجدتين جائزٌ. فإذا شهدَ العبدُ أنَّ إخوانه مصابون بمثل ما أُصيب به، محتاجون إلى ما هو محتاجٌ إليه؛ لَم يمتنع من مساعدتهم إلاَّ لفرطِ جهله بمغفرة الله وفضلِه، وحقيقٌ بهذا أن لا يُساعَد؛ فإنَّ الجزاءَ من جنس العمل.
الفاتحة هي نفسها في كل ركعة، لكنها تفتح عليك في كل تلاوة جديدة أقواسًا من المعرفة. وتُذيقك مواجيد من المحبة غير ما فتحت عليك وأذاقتك في الركعة السابقة! وأمّا السور والآيات، فعجائبها لا تنقضي، وكنوزها أبدًا لا تنتهي! فالكؤوس غير الكؤوس، والأذواق غير الأذواق.. وما زلت في موكب العابدين ترقى وترقى، حتي تبلغ مقام التشهد!
📜 قناديل الصلاة: مشاهدات في منازل الجمال, فريد الأنصاري, رحمه الله
" يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوتُه؛ فاستكسوني أكسُكم".. الكسوة الإلهية السابغة التي لا يخرقها كيد الرماح، ولا عواصف الرياح! كسوة العزة التي لا ذل فيها، والنور الذي لا تشوبه ظُلمة، والرفعة التي لا يلحقها هوان! كسوة الاطمئنان، وعافية الأمان، وسعة البر والحنان! كسوة أعلى من كسوة الكعبة، لا يقربها شيطان، ولا يحيط بعظمتها إنسان!
ولم يزل العبد في كل حياته مجتهدا في تحقيق " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله" ﷺ ، ارتفاعا بالإخلاص=وما أشدَّه على النفس! =وارتواءً من كوثر المحبة النبوية اتباعًا واقتداء واهتداء؛ حتى يأذن الله بالفتح فيذوقَ القلب نعيم الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينا وبسيدنا محمد ﷺ نبيًّا ورسولًا. اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك!
روى ابن جرير الطبري في قوله تعالى: ﴿أم تأمرهم أحلـٰمهم بهـٰذا أم هم قوم طاغون } عن ابن وهب قال: قال ابن زيد، «كانوا يُعَدُّون في الجاهلية أهل الأحلام، فقال الله: أم تأمرهم أحلامهم بهذا أن يعبدوا أصناما بكما، صما، ويتركوا عبادة الله، فلم تنفعهم أحلامهم حين كانت لدنياهم، ولم تكن عقولهم في دينهم، لم تنفعهم أحلامهم»
عن مجاهد ﴿أم هم قوم طاغون﴾ قال: «بل هم قوم طاغون»
وهذا الذي رواه ابن جرير عن ابن زيد ذكره الثعلبي في [الكشف والبيان]، والواحدي في [البسيط] و[الوسيط]، والسمعاني، والزمخشري، وابن الجوزي، وأبو حيان.
قال الفراء: الأحلام في هذا الموضع العقول والألباب. وقال ابن قتيبة: تدلهم عقولهم عليه لأن الحلم يكون من العقل، فكنى عنه به.
قال الواحدي: وكانت عظماء قريش توصف بالأحلام والنهى، وبأنهم أولوا العقول؛ فقال الله تعالى -منكرا عليهم-: أتأمرهم أحلامهم بهذا! وهذا تهكم وإزراء بأحلامهم، وأنها لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل. وفيه رد على من يوجب شيئا بالعقل، وأن الهدى يكتسب بالعقل. أهـ
وقيل لعمرو بن العاص: - رضي الله عنه - ما بال قومِكَ لم يؤمنوا، وقد وصفهم الله تعالى بالعقل؟ فقال: تلك عقول كادها الله! أي: لم يصحبها بالتوفيق.
[الكشف والبيان، زاد المسير، الجامع لأحكام القرآن، البحر المحيط]
روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم في قوله تعالى: ﴿ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ عن السدي، يقول: (نعمة الله) محمد ﷺ، أنعم به على قريش، فكفروا، فنقله إلى الأنصار.
وكذلك ورد عن السلف في قوله تعالى: ﴿۞ ألم تر إلى ٱلذین بدلوا نعمت ٱلله كفرا وأحلوا قومهم دار ٱلبوار}
ونحن في جميع ما نورده نحكي ألفاظَ المحتجين بعينها؛ فإنَّ التَّصرُّف في ذلك قد يَدخله خروجٌ عن الصِّدق والعدل -إمَّا عمدًا وإمَّا خطأً-؛ فإنَّ الإنسان إن لم يتعمَّد أن يلوي لسانَه بالكذب أو يكتم بعض ما يقوله غيرُه، لكن المذهب الذي يقصد الإنسان إفساده لا يكون في قلبه من المحبَّة له ما يدعوه إلى صوغ أدلَّته على الوجه الأحسن حتَّى ينظمها نظمًا ينتصر به؛ فكيف إذا كان مُبغِضًا لذلك؟!