•|
تحرّي مراد القرآن |•
مرَّت بي آيةٌ مِن القرآنِ نقَض بها النَّجمُ الطُّوفيُّ ما تمسَّكتْ به المعتزلةُ في القدر، فثارت في نفسي هٰذه الكلمة:
لن يَخلُصَ لك فهمُ القرآنِ علىٰ ما أراد به منزِّلُه، ولن تبلُغَ به مبلغَ أن يُرضِي عنك ربَّك ما تستخرجُ منه، ولن تدركَ منه الغايةَ المنشودةَ مِن الهدايةِ واليسرىٰ، والرّحمةِ والذّكرىٰ، والبرهانِ والبشرىٰ، ولا مِن أيِّ كلامٍ، حتّىٰ تأتيَه بريئًا مِن كلِّ فكرةٍ سابقةٍ، نقيَّ السّريرةِ مِن كلِّ أصلٍ عوَّلتَ عليه أخَذتَّه مِن غيرِه، سالمًا مِن أن تحاكمَه إلىٰ أوضاعٍ تقصُرُ عنه، ما لها مِن اللهِ عاصمٌ، عفيفَ الدُّخْلةِ طاهرَ المُتناوَلِ صادقَ النّصحية لكتابِ اللهِ، فتنظرُ فيه بالبصيرةِ، وتَسمَعُه بالذُّلِّ، وتجيبُه بالطَّوعِ، وتوليه التّسليمَ المطلقَ، والإذعانَ، وتجعلُ إليه الأمورَ ليقضيَ فيها بالحقّ، وتعوّلُ عليه في الإبرامِ والحلِّ، وتملأُ به الصَّدرَ انشراحًا، والفؤادَ رضًا، وتعقدُ عليه الهمَّ عقدًا، وتفردُه بالطّلبِ قصدًا، وتتّخذُه لك قائدًا حظُّك منه التّفهُّمُ والانقيادُ، وغايتُه عندك اتّباعُ ما أراد ... وكيف لا ينبغي ذٰلك والكتابُ الكريمُ هو الميزانُ الّذي عليه تُعرَضُ الآراءُ، وهو الحَكَم الّذي له تَخضَعُ الأملاءُ، وهو الهدى الّذي إليه تَرجِعُ الأنداءُ، أفيكونُ المتبوعُ تابعًا ثمّ يُرجَىٰ منه كريمٌ، أم يكونُ شيءٌ أقومَ مِن القرآنِ العظيم، وأهدىٰ إلى الصّراط المستقيم؟!
إنّ مَن لم يُنزِلْ نفسَه مِن القرآنِ المجيدِ منزلةَ التّابعِ مِن المتبوع، ولم يرضَ منه كلَّ قولٍ مسموعٍ، ولم يشدُدْ علىٰ ذٰلك وَثاقَه، ولم يُدِرْ عليه وِفاقَه، فلم يكن كذٰلك في كلِّ آيةٍ منه، وفي كلِّ محلٍّ، وفي كلِّ نداءٍ، وكلِّ عظةٍ، وكلِّ إرشادٍ، وكلِّ هدايةٍ، وكلِّ مَثَلٍ، وكلِّ عِبرةٍ، فلم يَدِن بالافتقارِ إلى القرآنِ المجيدِ، ولا بوّأه مَقامَ الإمامةِ، ولا ملَك جوانحَه الضّرورةُ إليه، ولا هتَك الحُجُبَ دونَه، بل اتّكل على الوسائطِ، وقَنِع بالسّابقِ إلى القلبِ، وأَرْخىٰ بالَه، وظنَّ أنّه يُحسن صنعًا، فقد أساء إلى القرآنِ أدبًا، وقد فاته منه المُعظَم! وإذا كاشفتَ نفسَك بذٰلك وصَدَقتَها النَّعتَ، صحّ لك أن تَبلُوَها فتقولَ: ما عندكِ إيقانٌ أنّ القرآنَ أُنزِل هدًى للنّاسِ وبيّناتٍ مِن الهدىٰ والفرقان!
فكم آيةٍ معَك مِن كتابِ اللهِ، تخاطبُك وأنت لا تَعيها، وتناديك فلا تستيقظُ لها، وتقصدُك فلا تقومُ بحقِّها، وفيها صلاحُك وأنت عنها مُعرِضٌ! تحفظُها وأمثالَها! ثمّ تُلقِي أحمالَها، وتجعلُ استعمالَها إهمالَها، حتّىٰ إذا رَحِمك اللهُ وكشَف عنك غِطاءَ آيةٍ، علمتَ لقد كنتَ في عَمايةٍ!
وها أنت ذا تَبرَأُ مِن المعتزلةِ في ما أَخطَئوا مِن تأويلِ الكتابِ، وما سلَكوا به خِلافَ الصَّواب، مع وفورِ العقلِ، وتمامِ العنايةِ، وتعلمُ إنّ في القرآنِ لَما هو صريحٌ في نقضِ قولِهم، يتأوّلونه أبشعَ التّأويل، أو يمرّون عليه كأنّه لا يعنيهم، فما يُنجيك مِن الوقوعِ في مثلِ ما وقَعوا فيه؟!
ألا تشفقُ علىٰ نفسِك؟!
إنّه لَأمرٌ جَلَلٌ، قد قرَّعنا به القرآنُ، لو تهيَّأتْ له القلوبُ، فقال اللهُ فيه: ﴿لو أنزلنا هٰذا القرآنَ علىٰ جَبَلٍ لرأيتَه خاشعًا متصدِّعًا مِن خشيةِ اللهِ وتلك الأمثالُ نضربها للنّاسِ لعلّهم يتفكَّرون﴾!
ومعاذَ اللهِ أن أدعوَ إلىٰ أن يباشرَ الإنسانُ القرآنَ بالجَهالةِ، أو يتناوَلَه بالتّقصيرِ، مِن دونِ رعيٍ لِما تَمهَّدَ في فنونِ الشّريعةِ الّتي هي وسائلُ إلى القرآنِ، وما تقرَّر في أصولِها وفروعِها، بل لا غنىٰ عن العُدّةِ الكافية مِن ذٰلك كلِّه، وإنّما أَرمي إلىٰ ما وراءَ ذٰلك مِن شأنِ الإرادةِ والقصدِ، والتّوجُّهِ والعزمِ، فالعلومُ سلاحٌ بيدِ الرّامي، إن شاء رمىٰ عدوًّا، وإن شاء قتَل نفسَه.
﴿وهٰذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ فاتّبعوه واتّقوا لعلّكم تُرحَمون﴾ الآيات.
•┈┈• ❀ ❀ •┈┈•
❁
النُّتف