من أهم -إن لم يكن أهم- منعطفات الجهاد الشاميّ وأحداثه: فكّ ارتباط "جبهة النصرة" بالتنظيم، ومع أن الحدث جلل ويعتبر زلزلًا تأريخيًا إلا أنه تمّ بطريقة سلسة لم تُزهق فيها أرواح ولم تُهدر دماء ولم تحصل تلك الفتنة المتوقعة -كما حدث في مفاصلة "الجبهة" مع "تنظيم الدولة"-، في مشهدٍ عجيبٍ نادرِ الحُدوث!
وأعتقد -والله أعلم- أن عناية الله تعالى لهذا المشهد بكل تفاصيله المعقدة والخطيرة وتوفيقه تعالى للقائمين عليه بإخراج الأمر بهذه الصورة الهادئة والسليمة عائدٌ إلى صِدق نواياهم فيه، وأنهم يبتغون به وجه الله تعالى بتحقيق مصلحة الدين وما فيه خيرٌ للمسلمين.
وهذا الحدث الأبرز لم يكن ليتمّ بالسلاسة التي حصلت لولا فضل الله تعالى أولًا وآخرًا، ثم الشيخ المجاهد المهاجر أبي الخير المصريّ، فالشيخ -الذي كان نائبًا لشيبة الجهاد في الشّام-
قدّمَ واحدةً من أعظم نماذج الإيثار والتضحية وتقديم مصلحة الأمة على مصلحة جماعته ونفسه، فموقفه هذا أمثلته قليلة في التأريخ، وقد اتخذ هذا القرار وهو يعلم أنه يوقّع بنفسه على نهاية جماعته كتنظيم في أرض الشّام التي كانت درة الساحات الجهاديّة وقبلة ميادين العمل والتي أغرت شتى الجماعات بشتّى توجهاتها للحرص على البناء والتملّك فيها والحرص على هذا "المُلك" ولو بالدماء كما هو معلوم من كثرة الخلافات والاقتتالات الفصائلية. وقرار التخلّي عن الجبهة جاء وقد استوت الجبهة على سُوقِها وأصبحت جماعةً متينةً في حين أفول جماعة "تنظيم الدولة"، وكانت وسيلةً نافذةً لمن أراد أن يعزز مصالحه في أرض الشّام، مما يجعل التفريط فيها أمرٌ لا يخطر على البال!،
فالاقدام على هذه الخطوة يحتاجُ إلى توفيقٍ خاصٍّ من الله، وتسديدٌ مُباركٌ لقلبِ صاحب القرار.لا أشكّ للحظة أن الشيخ أبي الخير كان
هبة ربانيّة لأهل الشّام منّ الله بها على هذه الأرض المباركة ونحسبه أنّه "
خيرتَهُ من عبادِهِ" اجتباه إلى "
خيرته من أرضِه". فقد وقف الشيخ مواقفًا كثيرة نفع الله بها المسلمين وحفظ به مصالح الدين، وقد برزتْ له منها موقفَين:
الموقف الأول: في فتنة الخوارج عندما أعانَ على حماية "الجبهة" من فتنتهم وجمَعَ الناس حولها وفارَقَ بينها وبين "الدولة" حافظًا بيضة الجهاد وجموع المجاهدين من تلك الفتنة الشعواء التي كادت أن تقضي على سوق الجهاد في الشّام لولا لطف الله، واقفًا بذلك موقفًا مشابهًا لسيدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه في السقيفة وقد حفظ الله به بيضة الإسلام وجمع الناس على إمارة أبي بكر الصّديق رضي الله عنه ونزع به فتنة الشّقاق.
الموقف الثاني: عندما تبنّى قرار فكّ الارتباط وباع الجبهة للأمة بلا ثمن!، مشابهًا سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما في تنازله وعظيم تجرّده لسيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
لقد كان تبنّي قرار فكّ الارتباط اجتهادًا اجتهدهُ الشيخ أبي الخير، وحينها كان ذلك الاجتهاد غير معلوم النتائج والمآل، لاسيما وإرهاب الغُلاة يحيطُ بالشيخ وتهديدات الانشقاق حاضرة وأخطار التّفكّك التنظيميّ والفكريّ تتربّص بالجبهة، فالقرار كان ثقيلًا، ولكن الشيخ اجتهدَ ضمن حدود صلاحياته الممنوحة له من شيبة الجهاد -تقبّله الله-، فكان ذلك إلهامًا من الله وتوفيقًا سدّد الله به قلب النائب، وأبان الزمان لاحقًا عن صوابية ذلك الاجتهاد، وأنّ الله وفّق الشيخَ لإصابة الحقّ والخير، نسأله تعالى أنْ يجزيه الأجرين العظيمين.
لم تمضِ ستة أشهر بعد فكّ الارتباط حتى أخذ الله وديعته من عبده أبي الخير على أحسن حال، ليختم الله له وهو سائحٌ في سبيل الله على أرض الله المباركة الشّام بعد عقود من الجهاد والهجرة والصبر على اللأواء والمشقة، حيث قُتِل في غارة أمريكيّة غادرة في ختام جمادى الأول من سنة 1438هـ، وكان ينتظر ذلك اليوم بشوق، حتّى نُقِل عنه أنّه كان لا يحمل مسدسه الشخصيّ معه وعلّل ذلك بأنه "
ينتظر الاستهداف من الطائرة"!، وقد أتاه الله أمنيته بعدها بأيام، وساق له الشهادة على يدِ شرّ عباده بعدما أدى ما عليه، وكسر الباب وأخرج المجاهدين من ضيق التنظيم إلى سعة الأمة، وفُتِحَ بابُ خيرٍ عظيم حطّ رحاله في دمشق، وسيصل مداه -بقوّة الله- القدس ولو حبوًا على الرُّكب: ﴿
وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.
اللهم اجْزِ عبدك أبي الخير عن إخوانه وابناءه وأمته أعظم الخير وأجزله، وبلّغه منازل الشهداء، واجمعنا به في جنّاتٍ ونهرٍ في مَقعدِ صِدقٍ عند مَليكٍ مُقْتدِر.
#بين_خطوات_الراحلين¬