هل ينطبق على الكائن وصف( مخلوق)؟ إذا كان الجواب: نعم، فينطبق عليه تلقائيا نعت(مسؤول). الخالق وحده لا يُسأل عما يفعل، ومن سواه يُسأل. هذه المقدمة من أعظم مدركات الآدمي، وأنه ما دام شيئا مذكورا موجودا فذلك يستلزم(المسؤولية). الإنسان الذي يعي المسؤولية ويتحملها متسق مع طبيعة كونه مخلوقا، وذلك يجعله مستحضرا دوما هذا المبدأ أثناء رحلته العابرة. إن غياب الشعور بالمسؤولية يولد الإهمال واللهو عن مهمة الشخص في الأرض، وإن غياب المساءلة المجتمعية أساس الطغيان والإفساد في الأرض. هناك إحساس يجب أن ينبع من كل آدمي بأنه مسؤول، وهناك دور من المجتمع أن يمارس التساؤل المشترك الذي يعين كلًا على أداء دوره... فينبه الغافل ويذكر الناسي ويعلم الجاهل ويرشد السفيه... إن المسؤولية في الآخرة فردية، بيد أنها في الدنيا جماعية! إذ الإنسان شاء أم أبى يعيش فوق أرض وتحت سماء ويتعامل مع بشر وكائنات أخر، والمساءلة أصل ضروري في ضبط ذلك كله. ومسؤولية كل فرد بحسب ما أوتي من مواهب وإمكانات، فكلما ارتفع مقامه عظمت مسؤوليته، وعلى قدر التشريف يكون التكليف، والغنم بالغرم. حين يفقه المجتمع ذلك لن يلي العمل إلا الأكفاء،إذ المجتمع الراشد يراقب ويطالب ويسأل، مما يجعل كل شخص يفكر طويلا قبل تسنم منصب ما، هل يستطيع أداء مسؤوليته وأمانته أم لا؟ سواء كان ذلك بدافع أخلاقي ذاتي أو بطبيعة الدور الاجتماعي الفعال اليقظ! إن المجتمع الذي يتآمر بالمعروف ويتناهى عن المنكر ويتواصى بالحق حقيق بأن يصلح حاله وتستقيم معايشه؛ لأنه يمارس واجبه التساؤلي بأسلوب لا يسمح للسفهاء أن يديروا شؤونه. المجتمع في الأرض كالسفينة عمل جماعي ونتيجة جماعية، يتعاونون ليصلوا إلى بر الأمان جميعا أو يغرقوا جميعا. وحتى ينجو ركاب الفلك يجب أن يكونوا يقظين لتصرفات بعضهم في سائر جوانب السفينة. إن مسؤولية القبطان أعظم بلا شك،لكن ذلك لا يعفي الركاب من مسؤوليتهم في حفظ المركب. حين تغيب المساءلة والمحاسبة تتحول المناصب والمسؤوليات إلى مكاسب شخصية بلا منافع عامة، وعندئذ يتنافس عليها أراذل الناس وأقلهم قوة وأمانة وأضعفهم كفاءة! أما حين تحضر المسؤوليات واضحة جلية مع مجتمع يقظ حي فسيتراجع أكثر الناس ولن يتقدم إلا الذين هم أكفاؤها. إن الذين يشعرون بالمسؤولية ويبادرون إلى عمل ما يمكنهم فعله هم رواد المجتمع ونخبة الناس، أما السعاة إلى المناصب ففي الغالب هم قوم طفيليون يأخذون ولا يعطون،ويكثرون عند الطمع ويقلون عند الفزع. إن الإحساس بالمسؤولية مقام نبيل يدفع الإنسان إلى القيام بدوره مهما صغر، ويجعله شديد العناية بواجباته قبل المطالبة بحقوقه. والمسؤولية جماعية وكلما تراكم أداء أفراد المجتمع لمسؤولياتهم نهض المجتمع وسعد،بينما إذا كثر إهمال المسؤوليات تكاثرت الطفيليات وأهلكت الناس. إن على كل أحد أن يكون مسؤولا قبل أن يكون سائلا،وأن يحاسب نفسه قبل غيره، وكلما استطعنا تكثير هذا السلوك نكون قد رفعنا كفاءة المجموع تلقائيا. إن من أخطر الرزايا أن يترك الإنسان سدى لا يؤمر ولا ينهى، ولا يحاسَب ولا يساءَل... تلك بذرة الظلم والفساد. إن مفهوم الحسبة ليس مقصورا على جانب دون آخر، بل هي عملية شاملة يتعاون عليها جميع أفراد المجتمع كلٌ في مجاله. وكلما عم شعور عدم المبالاة والأنانية في مجتمع فمآله الهزيمة والفشل والتفكك، وكلما زادت نسبة المسؤولية في أفراد المجتمع فذلك خير وأحسن تأويلا. إن التمكين في الأرض مرهون بالشعور بالمسؤولية، وإن المحافظة على المسخرات قائمة على التحسين المستمر والتساؤل التعاوني الدائب! هناك مسؤول يقوم بدوره قدر الطاقة، وهناك كَلّ على المجتمع، وكلما كثر النوع الأول نما المجتمع وازدهر. فلنكن دوما مسؤولين متسائلين.
في عصر المشتتات والمحيرات والملهيات والتقلبات ثَم مبدأ جليل في غاية الحكمة وهو (استقبال القبلة)! من أكثر ما يعاني منه الإنسان المعاصر فقدان التركيز وزحام المعلومات والأفكار...إنه يعيش غالبا حالة (التيه). هنا تأتي أهمية هذا السلوك الذكي الزكي(القبلة). يستيقظ من نومه فجرا فيؤمر بالصلاة، فيبحث عن القبلة لتكون صلاته صحيحة،، ما هذا؟ ذلك توجيه للبوصلة أول اليوم.. ثم تمضي عدة ساعات في شغل أو لهو أو لعب..فتزول الشمس فيقال: صل الظهر، فيستقبل القبلة مرة أخرى؛ ليعيد تحديد الوجهة... تمضي ساعات ويُمد الظل فيقال: صل العصر، فيستقبل القبلة ثالث مرة؛ ليضبط الاتجاه.. ساعات وتغرب الشمس فتأتي صلاة المغرب ليستقبل القبلة رابع مرة؛ لاستعادة التركيز. يمر وقت يسير فتأتي صلاة العشاء ليستقبل القبلة للمرة الخامسة! ليعيد توجيه الوجهة. تلك ممارسة يومية نافعة جدا لمن يعي،، وعادة تذكيرية مدهشة ومنبه يومي متكرر يعيد تنظيم برنامج الآدمي اليومي، وينتشله بين ساعة وأخرى من حالة الشتات الذهني والتذبذب العملي. استقبال القبلة تجديد للتوحيد في قلب العبد، وتطهير دوري له من عوارض الشرك، وتذكير دائب له بوجهته الصحيحة وهدفه السامي. حيث ما كان يجب أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام؛ ليتذكر السماء والبيت المعمور والعرش العظيم وربه الكريم. ولكأن استقبال القبلة تدريب بدني مستمر يثمر تركيزا ذهنيا عاليا ينبه الغافل ويذكر الناسي ويعلم الجاهل ويدل الحيران. ربما يتناوشه شركاء متشاكسون وتوجهات متناقضة وشهوات متباينة فتأتي القبلة بين ساعة وأخرى لتؤدي عملها الإنقاذي الدوري لإخراج هذا الإنسان من اضطراب النفس إلى طمأنينتها وسكينتها. ربما تنتاب الشخص الهموم من هنا وهناك لتمزق فؤاده فتأتي القبلة لتجمع شمله وتهدئ من روعه. قد تفسد نية الإنسان أو ينحرف قصده فتجيء القبلة لتصحح المسار وتجدد الإخلاص. ومع أن الشارع الحكيم لم يجعل لتجسيم الماديات شأنا، إلا أنه جعل (الكعبة) حالة استثنائية! لتكون مركزا يعيد إحياء أهل الأرض وتذكيرهم بغاياتهم الكبرى وأهدافهم الذكية الزكية. من حيث خرجت، وأينما ذهبت، شرقت أو غربت... قف! تذكر أصلك، من أين جئت، لماذا أتيت؟ ماذا بعد الدنيا؟ القبلة مساعد رائع لك لتحسن الجواب عن الأسئلة الوجودية. لاحظ أن الحجر الأسعد الذي نزل من الجنة جزء من الكعبة التي هي القبلة! ماذا تفهم من ذلك؟؟ إن تولية الوجه شطر المسجد الحرام بمثابة العودة إلى حضن الأم الدافئ الذي ينسيك الهموم الأرضية، ومنها تعرج روحيا إلى ملكوت الرحمة والحنان حول العرش العظيم. وتدبر أيها اللبيب التصرفات التي تخص الكعبة فحسب! (تقبيل الحجر،استلام الركن،التعلق بالملتزم،الطواف) تجد أنها تلبية للأشواق الروحية إلى السماء،إلى الجنة،إلى الوطن القديم. إنها أفعال تشبع حاجة الإنسان الفطرية لبقية من أثر البيت المعمور والسقف المرفوع! وهذا من أسرار عدم الشعور بالغربة عند الكعبة، بل يخالط الزائر فيها شعور بأنه بين أهله وفي داره. وبما أن البشر لا يمكن أن يكونوا جميعا عند الكعبة دوما، فإن استقبال القبلة يؤدي شيئا من ذلك الدور، حيث يصل الإنسان إلى الكعبة روحيا وذهنيا، ويجعل حياته وحركته طوافا حول ما ترمز الكعبة إليه وهو(الأحدية الربانية). إن استقبال القبلة يوميا فرصة عظيمة لتقييم سلوكك اليومي وتقويمه، ووقاية من الاتجاه إلى الطريق المنحدرة، وأمان من الزيغ وتقلب الأفئدة والأبصار. وتفكر هنا في أن سيد المجالس ما استقبلت فيه القبلة، وأنه حتى في قضاء الحاجة ينتبه الإنسان إلى اتجاه القبلة فلا يستقبلها ولا يستدبرها! كل ذلك وأمثاله يبين لك بجلاء عظيم شأن القبلة، وأن استحضارها دوما أمر مقصود. إن القبلة حقا (قُبْلَة الحياة).
الحقيقة الكبرى في الكون : الله أحد. الخالق واحد لا شريك له.. وما سواه مثنى وثلاث ورباع وجماعات... من كل شيء خلق البديع زوجين ... فالمخلوقات بنيت على الزوجية والثنائية والتعدد... ذكر وأنثى، سماء وأرض، شعوب وقبائل...وهكذا كل مخلوق له مقابل بشكل أو بآخر... كل مخلوق له شركاء يعينونه كزوج أو ولد أو صاحب....الخ من هاتين المقدمتين تستطيع فقه أعظم قوانين الحياة! كل صلاح في الكون فمرده إلى إعمال تلكم المقدمتين، وكل فساد في العالمين فمرجعه إلى مخالفتهما. مجرد المساس بمقام الوحدانية الربانية يعد شركا، وذلك النقص في المقدمة الأولى ينشئ الاضطراب في النفس البشرية، ويولد الانحراف في فكرها وسلوكها. إن توجيه وجه العبد لإله واحد يطمئن قلبه ويسكن نفسه ويريح باله، إذ توحيد الغاية والتركيز على إرضاء إله واحد أيسر بكثير من تعدد الآلهة! كلما حفظ الإنسان المقدمة الأولى(أحدية الإله) اختصر الطريق ووفر كثيرا من العناء والجهد المعنوي والحسي،وحفظ ذاته من التمزق! إن الشرك عمل شاق مرهق جدا، واكتسابه يستهلك طاقة الإنسان ويمتص قدراته ويشتت توجهاته ويطمس فطرته. ولقد كان الأنبياء على علم تام بذلك، ولذا تراهم يستفتحون دعوتهم بالتذكير بتلكم المقدمة الفطرية. أولا نحدد الهدف ونوضح الغاية ونثبت الوجهة ونستقبل القبلة... فإذا استقام لنا ذلك تيسر إصلاح الآدمي بعدها. حين يؤمن الإنسان بأحدية ربه يكون سَلَمًا لسيد واحد،ويحسم النزاع العبادي في داخله. القلب البشري مصمم على الحب والذل لإله واحد، وبقدر محافظة الشخص على ذلك التصميم الأولي الأصلي استقرت حياته الجوانية. ولا يتعب القلب ويرهق الفؤاد شيء كما يصنع تعدد الآلهة! إذ ذلك يمرض القلب ويفسد مهمته فتدب الفوضى العارمة إثر ذلك في سائر الجسد! شركاء متشاكسون يحدثون فصاما ذهنيا داخل الآدمي يجعله مشتت العزمات متناقض الوجهات مدمر الإمكانات. المقدمة الأولى هي صمام الأمان وحجر الأساس في بنيان الإنسان. المقدمة الأولى وفاء بالعهد الأول، وارتباط بالميثاق العتيق، وعزم راسخ على العودة إلى مقعد صدق عند الأحد! المقدمة الأولى هي السبيل الأوحد لفتح أبواب السماء والعودة إلى الجنات. إدخال التعدد والزوجية والثنائيات في المقدمة الأولى أشد إفساد لحياة الإنسان. أما المقدمة الثانية فهي أساس طبيعة شأن المخلوقين! إذ المخلوق لا يتفرد بذاته، بل هو دوما في حاجة إلى مخلوقات أخرى... ويحكمه قانون الزوجية والثنائية والتعدد...بدءا من آدم وحواء إلى زوال الدنيا... وانطلاقا من هذه المقدمة الثانية صار مبدأ الوحدة والاتحاد وجمع الكلمة أصلا في القوة والتمكين في الأرض، وأصبح التفرق والتنازع والتقاطع سببا للفشل وذهاب الريح. ومع تفرد عز الربوبية لا يصلح إلا العبادة، ومع الضعف البشري والحاجة المتبادلة لا يصلح إلا الاجتماع والتعاون. كما لخص الشاعر البليغ تلك المقدمتين بشكل موجز مدهش فقال: الله فوق الخلق فيها وحده والناس تحت لوائها أكفاء والدين يسر والخلافة بيعة والأمر شورى والحقوق قضاء ومن تجليات تلك المقدمتين أن المخلوقين يتلقون منهاج حياتهم من وحي(الواحد)، وما ترك الوحي فيه مساحة كان الأمر شورى بينهم، فيوحدون مصدر التلقي في المحكمات القطعيات، ويتعاونون في التعامل مع الظنيات مجتهدين مؤتلفة قلوبهم. إن الانفراد بالرأي والاستبداد بالقرار وترك الشورى ونبذ التعاون مخالفة صريحة للمقدمة الثانية،وربما أفضت إلى مخالفة المقدمة الأولى، وفي كلٍ فساد كبير. لقد شرع الحكيم عبادات تحفظ المقدمة الأولى، وأقام نظاما اجتماعيا متكاملا يصون المقدمة الثانية. الصلاة مثلا عبادة للواحد، تؤدى جمعة وجماعة... والزكاة نية خالصة للأحد، وتكافل اجتماعي، والصوم لله، يؤدى حين يصوم الناس ... والحج لله، ويقام في زمن محدد مع جماعة الحجاج... وهكذا تلحظ منظومة محكمة تجمع بين توحيد المعبود،والوحدة بين العباد. رأسيا يوحدون التوجه إلى الأحد، وأفقيا يوحدون صفوفهم تعارفا وتعاونا. إن إدخال الثنائية والجماعة في شأن الإلهية ظلم، وإن إدخال الوحدانية والتفرد في شأن المخلوقين جهل، والخلاص في توحيد الخالق ووحدة المخلوقين! تلك مقدمتان يقوم عليها البناء الإنساني الحكيم، والسعيد من وحد ربه، وتوحد مع عباد ربه.
مما يجعل الشخص متجاوبا مع المخلوقات مستمتعا بالتواصل معها منتفعا بها ونافعا. البحث الدائب مهذب للإنسان،مذهب للكبر والغرور، مورث للتواضع،محسّن للأخلاق، محفز للتسبيح، قائد إلى السجود! البحث العلمي طلب حثيث للإصلاح وسعي ملح للترقي وحرص دائم على التحسين. البحث العلمي يمنحنا أجمل العمر وأرقاه، ويقينا من الرد إلى أرذل العمر! ولعلك تلحظ أن الباحثين يظلون إلى آخر لحظة في حياتهم طلاب علم وشداة معرفة ( مع البحث إلى البعث).
البحث العلمي أحد أبرز مؤشرات نهضة المجتمع! إذا أردت تقييم بلد فانظر فورا في مستوى البحث العلمي والباحثين فيه! حسنا، نعود إلى البداية، حين أراد الله إظهار فضلنا للملائكة صنع شأنا علميا فعلم أبانا الأسماء كلها(وهي جذر العلم ومادته) فأذعنت الملائكة لتفوق آدم العلمي! ثم أهبط إلى الأرض موعودا بإتيان العلم إليه من لدن حكيم عليم، وانطلقت رحلة البشرية في الأرض وأمامها فرصة للعودة إلى السماء إذا اتبعت (العلم) الذي كان بضاعة الأنبياء وتركة الرسل! واستمرت الحياة على ذلك وبات فلاح الإنسان مرهون بموقفه وحظه من (العلم) ، ودامت الرفعة الحقة مرتبطة بالعلم والعلماء! وظل أولو الألباب يتذكرون دوما أن تشريفهم الأول أمام الملائكة تم عبر (العلم) فأفنوا حياتهم في ذلك ؛ حفاظا على العز القديم،وشوقا إلى مقعد الصدق الآتي. مصدر العلم الرئيسي (الوحي)وسبق الحديث عنه👆 وكذلك هناك أسلوب مهم لتحصيل المعرفة،ولحسن الحظ فهو مركوز في الفطرة البشرية، وهو(البحث العلمي). الإنسان منذ نعومة أظفاره باحث يسأل ويجرب كل ما يمكنه تجربته ليتعلم! لدى كل إنسان غريزة تسمى(الفضول) وتلك هي الدافع الأعمق للبحث العلمي. الفضول يحرك الآدمي عادة لينقب ويفتش ويبحث عن هذا الأمر أو ذاك.. الفضول يقيمه من فراشه ويخرجه من داره ويذهب به مذاهب شتى ليشبع تلك الرغبة الملحة(الفضول). إنه يجوع فيبحث عن الطعام ويعرى فيبحث عن اللباس وكذلك يسأل ويسأل ليحصل على إجابة. استمرار الشخص في البحث أمارة حياة وبارقة أمل ومبعث فأل.. إذ ذاك مؤشر على انتعاش روحه وحيوية عقله ونشاط بدنه! وتلك آية حياة الإنسان فردا وجماعة! الإنسان باحث بطبيعته، وما على المجتمع الراشد سوى المحافظة على تلك الهبة! وذلك لا يكون إلا في مساحة كافية من الحرية، وقدر وافر من الشجاعة الأدبية،واحترام بالغ للمعرفة والعارفين، وتشجيع متواصل لكل محاولة وفضول وتجربة واكتشاف،ثم تفعيل جاد لمخرجات البحث العلمي في واقع الناس، وصناعة مواءمة حقة بين البحث العلمي والتطبيق العملي. أن تعي كل المؤسسات التعليمية من الروضة إلى الجامعة أن من أعظم أدوارها: تشجيع فطرة البحث وتطويرها واستثمارها... وأن تدرك جميع المؤسسات التنفيذية أن جودة أدائها وتقدمها وتحسنها المستمر قائم على البحث العلمي الصادق. أن يواجه المجتمع مشكلاته بوضوح وشجاعة عبر باحثيه للوصول إلى حلول لمعضلاته، فلا تكون مراكز البحث معزولة عن المجتمع، ولا يكون المجتمع بمعزل عن ثمرات الباحثين. البحث حي يحب الحياة، وعملية ديناميكية تفاعلية مع حركة الأنفس والآفاق. إذا أردت النهوض بمجتمع فاصنع حركة بحثية دائبة تتجاوب مع الواقع تأثرا وتأثيرا ،تجيب عن سؤالاته،وتحل مشكلاته، بل وتبني مستقبله. البحث العلمي في جو حر كفيل بتمحيص الأفكار وغربلة المعلومات وإحقاق الحق ومحو الباطل. المجتمع الذي يتظاهر بمعرفة كل شيء، وليس بالإمكان أحسن مما كان،و كان آباؤنا.... مجتمع ميتٌ حكما،خارج حركة التاريخ.. لا جرم أن تغلبه المجتمعات الحية! البحث العلمي لذة غامرة أثناء الممارسة، ثم حلاوة أخرى حال الوصول إلى إضافة وتحقيق إبداع.. أرأيت الجائع يبحث عن طعام،والبردان يبحث عن دفء...كذلك الباحث تجده شديد الحرص على إشباع حاجته الفطرية المعرفية، غير أنه يستمتع وهو في الطريق، ولذا لا يتوقف عن البحث أبدا، كلما بلغ قمة التمس أخرى... إنها عملية مؤنسة للإنسان في رحلته القصيرة، فإذا استحضرنا كذلك سعة المسخرات وعظمة الكون اشتد فضولنا وعظمت أشواقنا إلى مزيد ومزيد من المعرفة مما يورثنا النهم الدائب في البحث العلمي. إن البحث العلمي لا يخص مراكز البحث أو الجامعات فحسب، بل كما نؤكد مرارا أن الكون كله معمل تجارب وفصل دراسة ومكتبة بحث. وكم يطربني حذاق المربين _وبعضهم حظه من المعرفة قليل_ إذ تراهم يقدمون للمجتمع باحثين مميزين عبر السؤالات والحوار الدائم في كل مكان أو زمان...على مائدة الطعام،في السيارة، في السفر، في السوق...على كل حال يثيرون في من حولهم شغف المعرفة والوله بالبحث والتوق إلى مزيد من العلم. إن علينا التفقد الدوري لأنفسنا ومن معنا والتساؤل دوما: ما الذي تبحثه؟ ما سؤالك؟ ما رأيك؟ ما الجديد لديك؟ ما المشكلة التي تسعى في حلها؟ ما المعضلة التي تمضي في تفكيكها؟ ...وهكذا دواليك لنضمن أننا لا زلنا على قيد الحياة! إن البحث العلمي ليس محصورا في ورقات علمية تدون،أو بحوث ترقية تكتب،،،، ذاك شكل من آلاف أشكال البحث العلمي.. البحث العلمي منهاج حياة وأسلوب عيش يتبناه أولو النهى في سائر جوانب حياتهم. إن البحث العلمي يشبه التسبيح من حيث التوافق مع الكون والانسجام مع الآفاق،
من أعظم حاجات الإنسان: الأمن! ومن أعظم مشكلات الآدمي: الخوف! الأمن أساس مهم وأصل أصيل في طيب الحياة فرديا وجماعيا... وحين يأمن الإنسان على دمه وعرضه وأهله وماله ....فإنه في وضع نفسي صحيح يسمح بالحياة الحقة والإنتاج والتفاعل والإبداع والعطاء. حين هبطنا إلى الأرض أول مرة أوحى ربنا (المؤمن) أن سبيل الأمن هو اتباع الهدى النازل من فوق! وفي سياق آخر يبين لنا من أحق بالأمن؟ وأنه من آمن ب( المؤمن) سبحانه دون شرك! إذًا، فالأمن حالة نفسية مرتبطة بالسماء ابتداء لا بالأرض... معنى ذلك أن الإنسان كلما أخلد إلى الأرض واثاقل إلى الطين زادت مخاوفه، لأنه ركن إلى مكان غريب مؤقت عابر ...فمن الطبيعي أن يظل مضطربا خائفا وجلا في رعب دائم يأتيه الذعر من كل مكان.. إذ هو غريب الوجه واليد واللسان ... بينما حين تدخل السماء المعادلة ويتطلع القلب إلى الملأ الأعلى وتستحضر النفس أشواقها إلى ملكوت السماء حينذاك يختلف المشهد... كحال الرضيع وهو يشاهد أمه كيف يشعر بالحنان والسلام والأمان! المخاوف مرتبطة ابتداء بمستوانا الطيني، والأمن نابع من جانبنا الروحي العلوي، فإذا وكلنا الطين إلى ذاته أهلكته مخاوف الدنيا، أما إذا فعلنا الجانب الروحي فإننا نسبل على الإنسان لباس الطمأنينة والسكينة. فارق كبير بين ذهن محصور في هموم الدنيا الضيقة والأرض المؤقتة، وبين فكر يجول في الملكوت الأعلى! هنا الضيق وهناك السعة، هنا التقلب وهناك القرار، هنا الزوال وثَم الخلود. تلك مدركات تنفث الأمن في رُوع الشخص أيا كانت ظروفه، ومتى غابت افترست الإنسانَ المخاوفُ ولو كان في بروج مشيدة وحوله آلاف الحراسات المشددة.. قد تجد آلافا يحرسون بدنك، لكن من يحرس قلبك؟؟؟!!! إن الأمن شأن نفسي محض له آثاره في الخارج، لكن أساسه ومنطلقه ومبعثه هو (باطنك) وتدبر يا يا لبيب : وقذف في (قلوبهم) الرعب! ثم ارجع التدبر كرتين: هو الذي أنزل السكينة في (قلوب) المؤمنين... على المستوى الشخصي لا مناص من التحصن بما يربطك بالسماء،بما يذكرك بدار الأمن الأولى، بجناتك العتيقة، بأجنحة النور التي سجدت لك أول مرة ولا تزال تعينك وتحفك منتظرة بلهفة عودتك لتفتح لك أبواب السماء والجنة! لا بد من أن تحرس مشاعرك وتحمي أحاسيسك بتلك المعاني العلوية التي تنتشلك من أوحال المخاوف الطينية! الأمن ملتصق بشدة بالإيمان! لاحظ(اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان) حين تؤمن بالمعية الربانية والحراسة الملائكية ستأمن! آمن> تأمن. لا يوجد مخرج من الخوف كالإيمان! اصنع داخلك مؤسسة حراسات أمنية تؤمن المداخل والمخارج وتحافظ على سلامك الداخلي! أما المجتمع فخلاصة الأمر ( عدلت فأمنت) على قدر العدالة الاجتماعية يكون الأمن المجتمعي. الظلم> الخوف، هذه هي المعادلة بكل وضوح .. أعط كل ذي حق حقه، أد الأمانات إلى أهلها، احكم بالعدل= أمن تام. كل ظلم يحدث انتظر بقدره خوفا.. السوط والسيف والعقوبات تكثر إذا عجز المدير عن إقامة العدل،فلا يبقى أمامه إلا البطش! من يحسن القيادة تندر حاجته إلى معاقبة من تحت يده، إذ قد حسم أصل المشكلات ابتداء بقيامه بالقسط! وكلما ضعفت مهارات الرئيس القيادية اشتدت حاجته إلى الحديد والنار؛ تغطية لضعفه وتعويضا عن خيانته. حين نخطط لتحقيق الأمن في أي مجتمع بشري فمن الجهل والظلم والحمق أن نركز على تخويف المرؤوسين وفرض أقسى العقوبات، وإنما نركز بادئ ذي بدء على(الحقوق)، كيف أعطي كل شخص في المجموعة حقه الحسي والمعنوي الذي يغنيه عن الظلم والاعتداء، ويوفر علي طاقة وجهد العقوبات! إن ازدحام المحاكم يدل بوضوح على خلل مبدئي في الإدارة، إذ الأصل قلة الحاجة إلى التقاضي، ولماذا نتحاكم وكل منا نال حقه؟! وهنا يمكنك فهم تلك الحالة الغريبة التي ذهب فيها القاضي (الفاروق) إلى الخليفة(الصديق) يطلب إعفاءه من القضاء😁 لماذا؟ لأنه ببساطة لا أحد يأتي للتقاضي!!! وقل مثل ذلك في الشرطة وتوابعها المسماة( أجهزة أمنية) .. كل ذلك تقل الحاجة إليه ويوفر الوقت والجهد والمال حين يقوم الناس بالقسط. ولاحظ حكمة الفقهاء حيث يبدؤون عادة بربع العبادات ثم ربع المعاملات، ثم ربع الأسرة،ثم في الربع الرابع والأخير يختمون بالحدود! لقد جاءك الحق ونالك نصيبك وأمنت على نفسك وأهلك ومالك وعرضك فلست محتاجا بعد ذلك إلى الجريمة والاعتداء.. وكما قلنا سابقا: إن العدل يغني عن كثير من الصدقات..فكذلك فإنه يغني عن كثير من العقوبات.. إن المسخرات الطبيعية أمانات متى أديت إلى أهلها أمن الناس! إذًا: الأمانة> الأمن! ركز معي أيها الذكي الزكي كيف استقامت المعادلة لغويا وشرعيا وواقعيا: الإيمان(فرديا) والأمانة(اجتماعيا) = الأمن.
(نأكل مما نزرع) شعار عظيم يحقق الأمن الغذائي للمجتمع! خلق الله الأرض للإنسان وسخر له ما فيها، ومن أجمل طرق الانتفاع بالمسخرات: الزراعة. ذلك العمل الجميل القريب كثيرا من فطرة الإنسان، والذي يمد الإنسان بالغذاء الكافي والدواء الشافي والجمال الوافي. الزراعة عمل صالح يخرج زينة الله وطيبات رزقه.. الزراعة أمان من الفقر واكتفاء ذاتي... الزراعة مهنة راقية جدا يتقنها صناع الحياة.. يغرسون الفسيلة ويضعون الجذور ويبذرون الأصول ثم في حلم وأناة وصبر وسكينة يتعاهدون زرعهم بالسقيا يوما بعد يوم ..حتى إذا آتت زروعهم أكلها انتفعوا بها ونفعوا الخلق. الزراعة تخرج أجمل ما في الأرض مستعينة بغيث السماء، وهي بعكس الصناعة حالة قريبة من الفطرة والطبيعة والسماء. الزراعة طول مدى وبعد نظر ،فأل وأمل، ومشاركة فاعلة في جمال الأرض وريشها. الزراعة ارتباط وثيق بالرزاق، وتطلع دائم إلى السماء، وعناية تامة بالأرض. الزراعة نموذج مميز للانسجام مع الكون والتوافق مع الحياة... الزراعة اتصال بأسباب الحياة ماء وخضرة ..حتى صارت مثلا لأثر الوحي على القلوب. الزراعة في عمقها شوق فطري إلى جنتنا الأولى التي عشنا فيها في الزمان الأول.. الزارع كالوالدين اللذين يرقبان وليدهما، كذلك المزارع يرقب ثمر زرعه وينعه. الزراعة إضافة رائعة لتكون الأرض مخضرة، وقد مر في مقال سبق تأثير الخضرة في النفوس. النظام الزراعي كما يرى أحد خبراء التعليم نظام ملهم لمناهج التعليم الإنسانية. وهذا رأي عميق جدا،إذ التعليم الحديث مبني على النموذج الصناعي المصمم للآلات، بينما لو بني التعليم على النموذج الزراعي لكان خيرا للإنسان وأقوم؛ لأنه يراعي خصوصية كل زرعة وتفردها ويترك لها المساحة لتنبت من كل زوج كريم حسب استعدادها وقدراتها. الماء واحد والأُكُل متنوع... الزراعة بعيدا عن ملوثات الجشع الرأسمالي تنتج طعاما طيبا هنيئا ملائما لتركيب جسد الإنسان، بل وتنشئ صيدلية متكاملة فيها لكل داء دواء بأيسر الجهد والمال. الزراعة مصدر رئيسي للرزق يضمن للمجتمع تلبية الاحتياجات الأساسية من الغذاء والدواء. الزراعة إغناء للمجتمع عن الفقر إلى غيره، وأصل دائم للكسب والعطاء. إن استخراج نبات أرضك يقوم مقام ( الأمن الوظيفي) ويحقق الاستدامة المالية التي تكفل لك العيش الكريم. إن مما يعالج الغلو الصناعي ويعيد توازن الكفة تشجيع الزراعة ونشر ثقافتها والعودة إلى أراضينا،لا لنملأها بالاسمنت،بل لنزرعها فنأكل من ثمرها ونتداوى بنباتها ونسر بمنظرها وليصفو هواؤنا للتنفس. إن الزراعة تتيح كذلك مساحة للحركة الطبيعية الفطرية للكبار صحة،وللأطفال متعة وقوة ونموا. لقد اختنق العالم بالمصانع،وآن له أن يتنفس بالمزارع. إن الزراعة تحقق الضرورات وتؤمّن الحاجيات بل وتشبع التحسينيات، وفيها أهم ما نحتاجه متاعا لنا ولأنعامنا. إن النظام الصناعي الوظيفي لا يسع الناس جميعا، وإن جزءا لا يتجزأ من حل البطالة -المولدة للعنوسة بطبيعة الحال_يكمن في دعم الزراعة وإحيائها من جديد. وإذا أردنا تحرير الإنسان فلندعمه ليزرع أرضه فيأكل مما يزرع فينال الاستقلال.
رابعة السلطات الثلاث( التشريعية والتنفيذية والقضائية) كما يقال سابقا (الصحافة) وهي فرع من فروع (الإعلام) فما بالكم بالإعلام في صورته الحالية؟؟؟!!! من الآخر، أكثر ما ترى في البشر اليوم صنيعة(الإعلام)! أفكار الناس ،مشاعرهم ،كلماتهم ،سلوكهم،استهلاكهم....الخ كل أولئك يشكله في المقام الأول(الإعلام). منذ فجر البشرية والإعلام أصل في المجتمع البشري، مع اختلاف الوسائل والظروف والإمكانات. ادرس الشعر عند العرب مثلا كيف كان وسيلتهم الإعلامية المؤثرة،وادرس البريد و وسائل النقل بين الشعوب والقبائل تجد كثيرا منها هدفه الإعلام .. ثم لاحظ مجالس الناس رجالا أو نساء تجد أنها في غالبها(إعلامية)! إذ يشبع الناس فضولهم للأخبار والأحداث والإثارة والماجريات... الإنسان إعلامي بطبعه! تدبر حالك حين يقع لك حدث أو تسمع خبرا تجد أنك تسارع بشكل أو بآخر بأن تكون إعلاميا متطوعا بنشر الخبر قدر المستطاع. الإعلام عادة بشرية نفسية اجتماعية مطردة عبر التاريخ... وفي عصرنا الحديث قفز الإعلام قرونا ضوئية في أدواته وأساليبه ووسائله... لقد تجاوز الحدود الجغرافية تماما،وتخطى الحواجز الزمانية كذلك...حتى صار يصل بين مشارق الأرض ومغاربها في ثواني معدودات! وهذا وضع لم تعرفه البشرية أبدا في وجودها الأرضي! مما ولد فوضى عارمة في حياة الإنسان فردا وجماعة حيث انهمرت الأخبار والمعلومات والصور من كل حدب وصوب فأصابت الآدميين بحالة من الدوار والشتات والزحام الذهني المفضي إلى قلة التركيز وعدم الطمأنينة. ذلك الإسهال الإعلامي والضغط الأخباري يسر على الناس التواصل من جانب،غير أنه في جوانب أخرى حرم أكثرهم راحة البال وسكينة الفؤاد. وعلى كل حال فقد بات الإعلام عاملا رئيسا مؤثرا في حياتنا جميعا. وإن أمرا بتلك الأهمية الكبرى يستحق المكوث طويلا وإعادة النظر في كيفية التعامل معه واستثماره فيما ينفع ولا يضر. نحن الآن في طور جديد ومفصل مثير في جسد التاريخ، والإعلام في أكثر ذلك سيد الموقف! الإعلام يصل إلى سريرك وإلى أعمق قناعاتك وتوجهاتك دون استئذان! وحيثما وصل الإنترنت اشتد أثر الإعلام! وكلما تطور الذكاء الاصطناعي تعاظم دور الإعلام! إن البشرية اليوم بحاجة ماسة إلى مراجعات واعية لما أشيع في الإعلام خلال المئة سنة الأخيرة، إذ وقع فيها من الكذب والتضليل والتلبيس ما تشيب له الولدان! على مستوى الفرد أو الجماعة.. كلٌ بحاجة إلى أن يهدأ ويقوم بجرد متأن لقائمة الأفكار والمعلومات التي تلقاها من الإعلام خلال القرن الأخير..لينصع طيبها وينفي خبثها. . ثم نحن في ضرورة إلى بناء موقف واع متبين متثبت مستبصر فيما سيأتينا مستقبلا عبر الإعلام الجديد! وكما أنه تحد صعب فإنه كذلك فرصة كبرى لنشر الخير وإحقاق الحق وبث الجمال. علينا التعاون في حملة نظافة نكنس عبرها الأذى الإعلامي من طريق الناس، ونضع بدلا عنه الورد والطيب، وذلك يستلزم قوة في المهارة الإعلامية وأمانة في المضمون،، لا بد من إحداث تراكم نافع يزهق الزبد فيجعله جفاء ثم يمكث في الأرض لينفع الناس. كل واحد منا اليوم (إعلامي) شاء أم أبى، ولا غنى عن أحد في تفعيل سنة المدافعة إعلاميا! هناك الخبر الصادق،والتحليل الخبير، الصوت الحسن،القلم البارع،التصميم الأخاذ، والصورة المعبرة،والحوار المثري، والمبشرات المحفزات،والتواصل النافع...وما إلى ذلك من فروع الإعلام ومجالاته... والشباب والناشئة اليوم أمامهم مسؤولية ضخمة في هذا الباب،فهم أعلم به من الجيل السابق.. إننا اليوم أمام أعظم فرصة لصناعة التاريخ، وإن الإعلام أعظم أداة لذلك! الإعلام الجديد مفتوح نسبيا،وفيه مساحات شاسعة يمكن التحرك فيها،فلا تحقر نفسك، ولا تقلل من دورك،فربما لا تكون الكليم موسى، ولكن رجل من أقصى المدينة يسعى.. ربما لا تقطف الثمرة،لكن حسبك المساهمة في الغرس.. أيها الإعلامي بفطرته،وبطبيعة زماننا: الكرة في ملعبك،فأخرج كنوزك و فعّل مواهبك وتعارف وتعاون ليبلغ إعلام الخير الآفاق، وتلك الغنيمة الكبرى.
الأموال قيام للناس، وليست (وسخ دنيا) وهي عصب معايش الناس وأداة تبادل المنافع بينهم. لا ينفك آدمي عن علاقة بالمال، ولا يمر على الإنسان ساعة إلا وهو يتعامل مع المال بشكل أو بآخر. المال زينة الحياة الدنيا التي أخرجها الله لعباده، وهو خضرة حلوة، ومن أعظم خوادم الإنسان. المال أعظم الوسائل والأدوات المعينة على تحقيق المقاصد، والوضع المالي من المؤشرات الدقيقة التي تبين حال الإنسان فردا أو جماعة. المال قوة هائلة تخرج حقائق ملاكه، فيظهر كرم الكريم وسخاء الجواد وطيبة الطيب ويبدي كذلك بخل البخيل وفجور المجرم ... المال كاشف صادق عن قيم الإنسان وأخلاقه. المال سعة تعين الإنسان على الانسجام مع الكون الواسع،وزيادة الانتفاع والنفع والتأثر والتأثير. الاقتصاد هو الضابط لحركة الأموال التي تقوم بها مصالح الناس، سيما أن المال لا بد أن يوافق الشمس والقمر والكون في الحركة، فيأتي النظام الاقتصادي الراشد الذي يشجع حركة الأموال ويمنع تكدسها واحتكارها(كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) الاقتصاد ميزان يضمن حسن توزيع الثروات وحسن استثمار الموارد وحسن تفعيل الطاقات. الاقتصاد عمود التكافل الاجتماعي حيث الزكاة والصدقة والإحسان. لكنه قبل ذلك يرفع شعارا يمثل أسرع وأخصر طريق لتحقيق العدل المالي (رده من حيث أخذته) رد المظالم وإعطاء الحقوق يحد من الفقر إلى درجة انتفاء الحاجة إلى الصدقة... الاقتصاد يمنع الإسراف،إذ حين ترى إسرافا فاعلم أن هناك حقا مضيعا. والقصد يمنع التقتير كذلك فيشجع الإنفاق والكرم والجود والإحسان... فيجعل المجتمع بين ذلك قواما بلا إسراف ولا تقتير. الاقتصاد الراشد يعدل فتندر الحاجة إلى الصدقات،ويحسن حتى يبلغ المجتمع درجات الاكتفاء الذاتي. الاقتصاد عموما جزء من النبوة، والقصد في الغنى والفقر شيء من تجليات تلك الخلة النبوية. الاقتصاد يشجع المجتمع على اكتشاف واستخراج المسخرات الطبيعية عبر موارده البشرية ثم يدعم المجتمع لحسن توظيف المسخرات والمستخرجات في المصالح العامة التي يعم نفعها الجميع. الأموال يحكمها قانون الوفرة والسعة الرباني لا الندرة الشيطانية،والاقتصاد يحسن إدارة تلك الأموال فحسب! إنه لا يخلق الأموال من عدم، وإنما يحسن العثور عليها ابتداء ثم حسن إنفاقها. لا يوجد أبدا شح في المال،وإنما هناك سوء إدارة لجهل أو ظلم. كل أرض فيها كنوزها وزينتها ومواردها..والذي تحتاجه فقط أن لا تؤتي السفهاء أموالها ، بل من آنست من أهلها رشدا.. إن من المهم دوما أن يعي المجتمع عموما موارده البشرية والطبيعية ويجتهد في إسناد الأمر إلى أهله وأن يضع(نظاما) يكفل جودة حركة الاقتصاد عدلا ثم إحسانا. ما عال من اقتصد، ولا يفلح من أسرف.. إن القيام بالقسط في الأموال يغني عن كثير من الجمعيات الخيرية،ويحول الطاقات إلى التطوير والتحسين والبناء لا مجرد إطفاء الحرائق. إن عمر بن عبدالعزيز لم يصل إلى كفاية جميع الناس _حتى صار يبحث عن الطيور لإطعامها- عن طريق الصدقات، بل عبر المبدأ العدلي العظيم(رده من حيث أخذته)!! إن الاقتصاد العادل يحقق الضرورات والحاجات وربما ترك مساحة للإحسان أن يعمل في التحسينات والتكميلات. إن الله جواد غاية الجود والكون ثري كل الثراء وليس على الإنسان إلا وضع الميزان ليقوم الناس بالقسط ويقوم الاقتصاد الرشيد.
السياسة عمل الأنبياء! (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء...) وأمر يتعاقب عليه الرسل ذلك مقام شريف وعمل صالح مصلح تشرئب إليه أعناق أولو النهى. السياسة ما دخلت شيئا إلا أصلحته! ولا يقوم بها إلا كبار النفوس عميقو الحكمة بعيدو النظر.. إنه عمل الأئمة! الذين يصلحون ما أفسد الناس! كل اجتماع بشري قل أو كثر بحاجة إلى من يسوسه، بحيث يبلغه غاية الممكن من المصالح ويجنبه المفاسد. السياسة قيادة الناس إلى منافعهم، وصناعة البيئة المعينة لهم على التعارف والتعاون. السياسة يقوم بها أهل النظر الواسع الشامل في المصالح العامة لأي مجموعة بشرية؛ ولذلك لا يمكن لأولي الفكر المحدود والنظر الضيق أن يكونوا ساسة! السياسة عمل مدني لا عسكري! إنها حالة تحقق الاستقرار والسلم المجتمعي حيث تلبى احتياجات الناس الأساسية،ثم ينطلق كلٌ في مجاله الذي يسر له، والسياسة تضمن أن الجميع يسير في التراكم المحمود الذي ينفع الجميع ولا يضرهم. يتفاوت الناس في كل مجتمع ويأتي السياسي ليحدث حالة من التوازن، ويمزج قدرات الناس ليخرج منها مجتمعا خالصا هادئا مستقرا. السياسة قدرة هائلة على جمع المتفرق وصلة المتقطع وتقريب المتباعد... من أجل ذلك فلا يطيقها إلا أوسع الناس صدرا وأعظمهم حلما وأكثرهم أناة وأشهدهم سماعا وأوسعهم نظرا وأبصرهم بعواقب الأمور ومآلات الأحداث. السياسي الحاذق يحسن استشراف المستقبل،ويبصر ما لا يراه غيره، ويرد النهر قبل قومه،والرائد لا يكذب أهله. السياسي الرشيد لديه ميزان دقيق يرجح به المصالح ويكثرها ويزيل المفاسد أو يخففها. سريع الغضب أو العجول بينه وبين السياسة بعد المشرقين. السياسي الحكيم ينزل الناس منازلهم ويؤتي كل ذي حق حقه، ولديه قدرة مدهشة على التغافل والتسامح والتجاوز والتناسي.. وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا السياسي الراشد قارئ جيد للتاريخ، يملك مهارة الاعتبار،ويحسن القياس وإلحاق الأمور بأشباهها. إنه يفقه السنن الكونية تماما ويستطيع قراءة الأحداث في ضوئها ويحسن مراعاتها والانتفاع بها. السياسة عمادها عقل راجح، والعقل الراجح عماده روح عظيمة تستوعب الناس وتحتوي المختلفين وتصلح بين المتخاصمين. للمعارك العسكرية أهلها أمام العدو المقاتل،بينما مؤسسات المجتمع المدني لا يجوز أن يليها إلا الساسة المدنيون. إن طبيعة العمل العسكري القتالي شيء وطبيعة السياسة المدنية مجال مختلف تماما... إن بناء المجتمعات عمل سياسي لا يحسنه إلا العارفون بطبائع الناس وقوانين الاجتماع. إن وقوع الممارسات الخاطئة للسياسة عبر التاريخ لا تجعل السياسة فسادا... بل السياسة فضيلة وضرورة لا غنى عنها، وإلا لما كانت عمل الأنبياء!
ثمة أمور يرى الناس آثارها إلا أنها كنوز عميقة باطنة يؤتيها العزيز المؤمنين فحسب! إن الله عزيز، وله العزة جميعا... وتلك الكلمة الغالية تكتنفها مفهومات مغلوطة تصغى إليها أفئدة الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ولا يدركون حقائق الأمور. العزة تشبه كثيرا (البركة) فهي أمر خفي ينزل من السماء على قلوب بعض الناس.. هناك عزة بالإثم والشقاق تتقنع بشيء من المظاهر والزخرف الذي يغري السطحيين ويغرهم فلا يبصرون ما وراءه. إنما العزة ما جاء من فوق! الذل حالة طينية أرضية منقطعة عن السماء! الذل سببه العميق التعلق بشهوة أرضية مؤقتة، والعز أصله الأصيل بقاء القلب معلقا بالسماء! الكلم المنزل من السماء عزيز، والكلم الطيب الذي يصعد إلى العزيز عزيز، العزة أن يبقى رأسك مرفوعا نحو السماء وقلبك متوجها نحو العرش،ولسانك لاهج بذكر تذكر به في ديار العزة العليا. العزة كنز لا يباع ولا يشترى في أسواق الأرض، بل هي سلعة تتداول في السموات! العزة اختصاص رباني يهبه العزيز الوهاب لعباده الأوفياء بعهده الذاكرين لمقعدهم العتيق عنده،المشتاقين لمقعد الصدق عنده. العزة مقام شعوري! له آثاره الخارجية.. وإن الحكمة كل الحكمة أن تركز فكرك وجهدك ووقتك ومالك لتحصيل ذلك المقام القلبي الرفيع، بينما كثير من الناس يتنافسون في التكاثر في مظاهر العزة الزائفة، انتبه وركز ،،، ارفع رأسك فوق ، أنت عزيز حر ... إن للغربة مشاقها وآلامها،ونحن في الأرض غرباء، ضيوف عابرون...متى ركزنا على الطين المؤقت رهقتنا الذلة، ومتى ما رفعنا رؤوسنا ونظرنا بعيدا إلى ديارنا الأولى ووطننا السماوي القديم سرت العزة في عروقنا. الأرض وجسدها وعقلها خوادم جيدة بشرط أن تتولى سيدتي الروح دفة القيادة! عندها يؤدي كل دوره بإتقان وتوازن ... متى تقع الذل والمسكنة؟ حين يكب الشخص على وجهه ويتجاهل روحه السماوية فيصبح منكوسا مقلوبا.. حينئذ تختلط الأمور وتدب الفوضى ويكثر السادة الأرضيون ويتنازعون فلا يبقى إلى الفشل والذلة. أي حراك يروم العزة فلا بد أن يكون من السماء وإليها، وما سوى ذاك تراب في تراب. إن طلب العزة في غير مظانها مرهق مكلف ومهلك ومذل..وكم أذل الحرص أعناق الرجال. ولكأن العزة مكافأة عاجلة لمن استطاع الاستعلاء على شهواته والمحافظة على أشواقه. ذلكم العزيز وتلكم العزة.