نفوس تنتمي للسماءكانت الأعصاب على أشدها، وبلغ القلق مبلغه، حتى خرجت الصديقة رضي الله عنها تتحسس أخبار المجاهدين، وإلام وصل القتال. فأبصرتها من بعيد، امرأة قوية مقدامة، قلبها يفيض حباً لله عز وجل ولرسوله ولدينه، كل مصيبة عندها هينة طالما لم تمس الإسلام ونبيه. أتت ببعيرها الذي يحمل قطع من فؤادها ممزقة فوقه، ومع ذلك ضربت أعظم الأمثلة للمسلمة الأبية صاحبة العقيدة الراسخة.
السيدة هند بنت عمرو بن حرام، حملت زوجها سيدنا عمرو بن الجموح وابنها خلاد بن عمرو وأخاها عبد الله بن حرام رضي الله عنهم جميعاً، أو بالأحرى حملت جثثهم شهداء في سبيل الله متوجهة تلقاء المدينة، في نفس الوقت الذي خرجت فيه الصديقة في نسوة لتتفقد أخبار القتال.
-قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: هل عندك خبر؟ ما وراءك؟
-قالت السيدة هند رضي الله عنها: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالح وكل مصيبة بعده جلل (تقصد أنه بخير وكل مصيبة بعده هينة)، واتخذ الله من المؤمنين شهداء {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا} [الأحزاب 25].
-قالت عائشة رضي الله عنها: من هؤلاء؟
-ردت هند رضي الله عنها: أخي وابني خلاد، وزوجي عمرو بن الجموح.
-قالت: وأين تذهبين بهم؟
-قالت: إلى المدينة أقبرهم فيها، ثم قالت: حل حل، تزجر بعيرها، فبرك.
-فقالت لها عائشة: لما عليه (أي أن الحِمل ثقيل)؟
-قالت: ما ذاك به، لربما حمل ما يحمل بعيران، ولكن أراه لغير ذلك، وزجرته فقام وبرك، فوجهته راجعة إلى أحد، فأسرع. فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك.
-فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الجمل مأمور، هل قال عمرو شيئاً؟"
-قالت: إن عمراً لما توجه إلى أحد قال: اللهم لا تردني إلى أهلي خائباً وارزقني الشهادة.
-فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلذلك الجمل لا يمضي، إن منكم -معشر الأنصار- من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح، ولقد رأيته [يطأ] بعرجته في الجنة، يا هند، ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينتظرون أين يدفن"، ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبرهم، ثم قال: "يا هند، قد ترافقوا في الجنة".
-قالت: يا رسول الله، ادع الله عسى أن يجعلني معهم.
همم كالجبال، تناطح السحاب. نفوس لا تنتمي للأرض ولا للدنيا، فلم ينشغلوا بها أو يحملوا همها يوماً؛ بل تحلق في السماء شوقاً لجنات الخلد. هؤلاء منا ونحن منهم، هؤلاء آباؤنا وأمهاتنا ونحن خلفهم، بهم نفخر وإليهم ننتمي وعلى دربهم بإذن الله عز وجل نسير.
بقلم: سنا برق
٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
٢٣ تشرين الثاني ٢٠٢٤ م
#أسنة_الضياء@AsennatAdiyaa