قبل 48 سنة بالضبط قال لي بدوي من أهل الحجاز المعمّرين، الذين زاروا ديارنا المقدسة قبل احتلالها ويعلم حجم المعاناة التي يعانيها أهلنا في ظل الاحتلال، في سبعينات القرن الماضي: "لو كنا مكانكم ما تحملنا ما تتحملون...". يومها قلت له: ماذا تقول؟ ألا تعلم أن أرضنا مباركة (بحجرها وشجرها وبشرها)؛ كيف نتركها؟
بعد هذه الكلمة ازداد تعلقي بـ
#فلسطين الأرض التي بارك الله فيها للعالمين؛ قال الله تعالى: ﴿وَنَجَّیۡنَـٰهُ وَلُوطًا إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَا لِلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأنبياء: ٧١].
تعلمت وبدأت أقرأ عن أفضلية بيت المقدس وأكنافه؛ عن الطائفة المنصورة؛ والتي قال ﷺ في أهلها وأمثالهم: "لا تزالُ طائفةٌ من أمتي منصورين لا يضرهم مَن خذلهم حتى تقوم الساعة".
وأحاديث كثيرة حددها ببيت المقدس وأكنافه؛ ولقد عشنا سنوات شديدة من البؤس والحرمان؛ صغاراً وكباراً، وتغربنا وطال بنا المقام؛ ورأينا الوجع على أصوله، والألم والحرمان بأنواعه وأشكاله، مررنا بحروب كارثية؛ إلا أن معركة طوفان الأقصى، وما بعدها من حرب ضروس طاحنة، رأينا خلالها كل أنواع القنابل والدمار والموت الذي مر بجانبنا وما زال في العمر بقية.
مرّ بها كل الشعب دون استثناء؛ بأوقات وحوادث كارثية، ما لا يمكن وصفها! ولا يمكن تحملها إلا مَن منَّ الله عليه وأذن له بالصبر والثبات والتحمل..
حتى تذكرت كلام صاحبي الحجازي المعمر؛ تذكرته ونحن نتعرض لأبشع أنواع القتل، وأقذر حرب يخوضها الأنذال ضد الأبرياء؛ وهذا الخذلان العجيب والغريب؛ ومع ذلك يصبر الناس على اللأواء ويثبّت الرجال الرجال بمقاومتهم في وجه أشرس آلة عسكرية مدمرة؛ ويثخنون في العدو الجراح؛ ليمر عام وأكثر الآن من الصبر والثبات والصمود والتحمل والتحدي والمواجهة.
وكأننا بثباتنا وصمودنا وصبرنا وتحملنا يذكرنا رسول الله ﷺ باشتياقه ويقول: "ودِدْتُ أنَّا قدْ رَأَيْنا إخْوانَنا". وفي حديث آخر يبيّن مَن هؤلاء الإخوان؛ فعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ".
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: وَزَادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُم"؟! قَالَ: "بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ"1.
لن نناقش في موضوع الأفضلية، فالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين خير وأفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام، ولهم الخيرية والأفضلية بصحبة النبي ﷺ ورؤيته، وهذه مزيّة لا ولن يصلها أحد من الناس مطلقاً مهما صنعوا وعملوا، ومع ذلك قال النبي ﷺ: "الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ".
الصبر.. ثم القبض على الجمر! صبر لا يوصف؛ فدقّة المعنى لا يُعلم إلا من خلال السياق: "الصبر فيهن مثل القبض على الجمر"؛ مَن يستطيع أن يقبض على جمر النار؟!
أهل
#غزة لهم أكثر من سنة يقبضون على جمر النار!
أكثر من سنة من الموت المتواصل والدمار الشامل يحيطهم والتشريد والنزوح يشملهم، والحر والغلاء والقلّة والفاقة والحرمان يغلي بهم، بلا طعام ولا ماء ولا غذاء ولا دواء..
بل رأينا المرأة وهي تحترق دون أن ترفع صوتها؛ وتتحرك ببطء تنتظر فرج الله بقرب ولوج جنة الله؛ كأنها وهي تحترق ترى الجنة!
إن المرء لا يتحمل هذا العيش يومين أو ثلاثة؛ أسبوعاً أو أسبوعين... شهراً بالكثير!
معظم الدول التي حاربت في الحرب العالمية الثانية لم يتحملوا الحرب، من خمسة أيام لعدة أسابيع ثم استسلموا.. أما غزة!
غزة وحدها حكاية؛ ليأخذ الصابرون أجرهم بغير حساب؛ أجر العامل الصابر فيها أجر خمسين من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين..
أعلمتم ماذا تعني غزة وأهلها؟
إنها الطائفة المنصورة؛ أجر المقيم الصابر العامل المحتسب فيها راضياً بأجر خمسين من الصحابة؛ فكيف بالمجاهد المرابط؟
اللهم لا تحرمنا أجرهم وصحبتهم!