وأذكر من الأخبار التي جاءت: بيت فلان قُصف، واستشهد في البيت 36 شخصًا، وبيت فلان قُصف، واستشهد فيه 58 شخصًا، وبيت فلان قُصف، واستشهد فيه 70 شخصًا، وكثرة الأعداد راجعةٌ لكثافة النازحين إلى هذا البيت من الأقارب والمعارف أو من غيرهم.
والكلام هنا ليس مجرد أرقام كما يمكن أن يستقبل الخبر من هم خارج البلد من أبناء الأمة؛ بل الحديث هنا كثيرًا ما يكون عن أصدقاء أو أقارب أو معارف، فالمشاعر ضاغطةٌ جدًّا.
والعائلة الواحدة قد تكون متفرقةً لاعتبارات شتى، فيستشهد أكثر الأفراد كل واحدٍ في منطقة في ظروفٍ مختلفة.
وهذا أمرٌ يعمل في المشاعر عملَه.
وتقريبًا للصورة: نظرت قبل مدة في الأسماء التي حصل بيني وبينها تواصل في الأيام الأخيرة قبل المعركة أو في أيامها الأولى، فهالني كثرة من فيهم من الشهداء، فأخذت في العد، وأخذت عينة من ذلك 15 شخصًا، فوجدت الذين استشهدوا منهم 11 شخصًا هم من أقرب الناس إليَّ وأعزهم وخيارهم.
لقد صار القتل قريبًا، وهانت الدنيا على الناس، وصار الكرب يُرى ويُحس في الشوارع، حتى تغيرت هيأة كثيرٍ من الناس!
وأذكر قبل ما يزيد عن شهرين أني رأيت بعضَ من لم أكن قد رأيتهم من أول الحرب، وإذ بالواحد كأنه زاد في العمر خمس سنين أو يزيد.
بل مما تحتار معه أن تضحك أو أن تبكي أن بصمة الوجه لم تعد فعالة في بعض الهواتف؛ لعدم تعرف الجوال على هيئة صاحبه بعد الذي أصاب الوجه من التغير، سواء من التعب والإنهاك وكرب العيش، أو من أثر الجوع لا سيما في مناطق مدينة غزة والشمال!
وفي ثنايا المعركة تأتيك أخبارٌ كبرى من البأس من مثل قصف المستشفى المعمداني واستشهاد 500 شخص، وقصف ثلاثين برجًا في مدينة الزهرة حتى أبيدت عن آخرها، وغير ذلك مما هو قريبٌ منه أو دونه.
والأشد من هذا كله ما كان يتردد في الأجواء من بداية المعركة من شبح التهجير إلى سيناء، وهو الأمر الذي تفاعل جدًّا عقب التهدئة وبدء حركة النزوح باتجاه الجنوب مطلقًا ثم باتجاه رفح خاصة، ولقد مضت علينا أيامٌ صعبةٌ في ذلك.
وكان يكلمني بعض الأفاضل ويذكرون أنهم على يقينٍ من حصول التهجير كما تشير القرائن بذلك، وكنت أقول لهم: قلبي مليءٌ بالتوجس؛ لأنَّ أكثرَ من نصف سكان قطاع غزة هم الآن على الحدود المصرية مباشرة، ولكني على يقينٍ بالله من عدمه.
وكنت أرى أن عامة آيات القرآن التي تتكلم عن الإخراج من الديار آتيةٌ في سياق كونه نجاة وإن كان هو في نفس الأمر ابتلاءً من حيث كونه مغادرةً للديار والأهل، فكيف ينتهي هذا المشهد الجهادي من شدةٍ إلى ما هو أشد؟!
ومن الأدعية التي كنت أرددها كثيرًا:
اللهم إنا نعوذ بك من الذلة بعد العزة، ومن الخوف بعد الأمن، ومن النقص بعد الزيادة.
اللهم كما أدخلتنا المعركة مدخل صدقٍ فأخرجنا منها مخرج صدق، واجعل لنا من لدنك سلطانًا نصيرًا.
وبعد؛ فما تَسَطَّرَ من أول المقالة معلومٌ لأكثر الناس، وقد عانوه وعاينوه بأنفسهم فكيف أحكي قصةً لصاحبها الذي جرت معه!
ولكني إنما ذكرتُ ذلك لأتمهد به إلى ما بعده مما هو مقصودُ الكلام.
إنَّ أجواءَ المعركة التي أتيتُ على طرفٍ من كلياتها دون الجزئيات والتفاصيل قد أوجدت رزمةً من الأسئلةِ على السطح، وصار كثيرٌ من الناس في ظل الإبادات اليومية التي لا تنقطع يسأل:
- أين نصر الله؟
- إن الآيات تبشر بنصرٍ قريبٍ وأنه يأتي حين اليأس وقد حصل اليأس، فلماذا لم يأت نصر الله؟!
- فهل تعطَّلت فاعلية الآيات؟
- ثم إنَّ فقه السنن يقرر نصرة الله للمظلوم وانتقامه من الظالم فهل توقفت فاعلية فقه السنن؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا؟
- ولماذا لا تستجاب الأدعية وقد التمسنا أوقات الإجابة وأحوالها؟
هذه الأسئلة وما دار في فلكها أفضى إلى موجةٍ عارمةٍ من اليأس والإحباط، وشك بعض الناس في وعد ربهم، بل بلغ الحال ببعض الناس إلى التكلم بما هو كفرٌ في نفسه والعياذ بالله.
وإذا كان الناظر من أبناء الأمة في أي بلدٍ يرى على نشرات الأخبار مشاهد الإبادة وبجانبها المقاطع الجهادية التي فيها إثخان المجاهدين في عدوهم فيعتدل عنده المشهد لاقتران الألم بالأمل.. فإنَّ شراسةَ المجازر هنا قد تجعل الذي يعاني ذاهلًا عما يجري على الأرض من إنجازاتٍ عسكرية، وحين تأتي فكأنها ومضة قد يُضعِفُ أثرَها شدةُ البأس ومعاناة تدبر أمر العيش، ولهذا من فضل الله على المجاهدين أنهم أخرجوا العمليات موثقةً لتبقى محفوظةً في الهواتف تؤدي فاعليتها من التحريض وبث الأمل كلما نظر إليها ناظر.
ومع شدة الجوع، وقصد العدو لتقرير حالة الانفلات في البلد، وبروز ظاهرة قطع الطريق والسرقة تبعًا لذلك فقد تكاثفت الأسئلة وكثرت، وكلها تتمحور حول اليأس، وفقد الأمل، وشدة الإحباط، خاصة أن هذا الخطاب قد وصل لبعض النخب من مثل الأساتذة والأكاديميين والدعاة والمشايخ وأولي الهيئات.