View in Telegram
وهذا هو العربي الأصيل وإن كان يعيش في جاهلية قبل الإسلام، فكيف بالعربي لو أسلم؟ فالأصل أنه يزداد حبًا وتمسكًا بكرامته وعزته، خاصة والإسلام يدعوه لأن يكون عزيزًا كريمًا، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [المنافقون: ٨] أي: حصرًا وقصرًا عليهم، ومعنى هذا أن الذي يرضى بالذل والهوان ليس مؤمنًا، بل إن الذي يرضى بالاستضعاف دون عذر فإن الله تعالى يتوعده بالعذاب وإن ادعى الإسلام، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ ظَالِمِیۤ أَنفُسِهِمۡ قَالُوا۟ فِیمَ كُنتُمۡۖ قَالُوا۟ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوۤا۟ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَ ٰ⁠سِعَةࣰ فَتُهَاجِرُوا۟ فِیهَاۚ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا﴾ [النساء: ٩٧-٩٩] وهؤلاء مسلمون وربما من الصحابة، لكن جريمتهم أنهم رضوا بالاستضعاف، والرضا بالاستضعاف ينافي التمسك بالعزة والكرامة. ولو تأملنا حال بلال -رضي الله عنه- وهو يستعذب البلاء في سبيل الله تعالى، وهو يصرخ في وجه عدوه قائلًا: "أَحد أَحد"، ثم يقول: "لو كنت أعلم كلمة هي أغيظ لهم منها لقلتها". إنه سمو الروح وحب العزة والكرامة، وإن أدى ذلك للقتل أو الموت. عام من الحصار والمقاطعة وبرغم ما في العام من عزة وكرامة ونشوة بالنصر، إلا أنه عام من الألم والجوع لأعز أناس على قلوبنا -أهل غزة الأبطال- يذكّرنا أبطال غزة بما فعلوه في السابع من أكتوبر 2023م وما تلا ذلك اليوم، يذكروننا بكثير من مواقف السيرة النبوية المطهرة، على صاحبها أفضل صلاة وأتم تسليم، فاليوم نتذكر شِعب أبي طالب، ذاك الشعب الذي ضم بداخله بني هاشم وبني المطلب، دونَ قريش كلها، وقفوا استجابة لدعوة أبي طالب لهم، استجابة للنخوة والرجولة والشهامة، عرَّضوا أنفسهم وذراريهم للمقاطعة والجوع والحرمان دون أن يتخلوا عن شهامتهم ومروءتهم.. وقوفًا أمام قومهم لما رأوا منهم ظلمًا وعدوانًا لا مبرر له، في حين انحازت بقية القبائل لصف الصلف والجور مع أبي جهل ومَن معه، حتى أبناء العمومة كالمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وأبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وعتبة وشيبة ابني ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، هؤلاء تخلوا عن بني عمومتهم ووقفوا في صف الطغيان. وتستمر المقاطعة ثلاث سنوات متواصلة، يحرم فيها بنو هاشم وبنو المطلب من كل حقوقهم في البيع والشراء والمناكحة وحتى من التجول والخروج سوى في الأشهر الحرم، كل هذا لأجل عدم التفريط في ابنهم والمسلمين معه، وما منع أبا جهل وعصابته من قتل محمد ﷺ إلا خوفه من سيلان بحور الدم ممن ناصروه ومن بني هاشم والمطلب المدافعين عن رسول الله ﷺ. لكن تلك المقاطعة كانت تتخلق بأخلاق الجاهلية الأولى (وأقصد بذلك مدحًا لها لا قدحًا فيها) فبرغم الحصار لهم كانوا يحافظون على بعض أخلاقهم التي تربوا عليها، فبنو هاشم والمطلب ما دخلوا في حلف أبي طالب إلا لحفاظهم على عاداتهم من عدم التخلي عن ابنهم، ومن مناصرتهم للمظلوم وإن كلفهم ذلك حياتهم، وحتى المحَاصِرون -بكسر الراء- كانوا يخشون رغم ظلمهم أن يؤثَر عنهم أنهم تخلوا عن أعرافهم، ولذلك قاموا هم أنفسهم ينقضون الصحيفة التي كتبها صناديدهم، فرأينا هشام بن عمرو، وزهير بن أبي أمية المخزومي، ومطعم بن عدي، وأبا البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، يتمالؤون بالليل سرًا على نقض الصحيفة، ولو أرادوا توسعة دائرتهم لوجدوا العشرات معهم، ممن يرفضون الظلم والقطيعة. حصار غزة ليس له مثيل ولكن جاهلية القرن الواحد والعشرين جاهلية جهلاء، لا تعرف قيمًا ولا أخلاقًا وليس لها من العادات ما تحترمه، وليس من بينهم من يستطيع تقليد المطعم أو زهير، لذلك حصار ومقاطعة أهل غزة أشد بكثير من حصار أبي جهل للمسلمين الأول، حصار اليوم تنصب فيه الحمم صبًا على رؤوس الأطفال والنساء والشيوخ والضعفاء، حصار اليوم لا يوجد فيه من يقول للظالم أنت ظالم، لا يوجد فيه زهير ليطوف بالبيت ثم يقول: "أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة"، لأن اليوم دار ندوتهم -وما يسمونه مجلس أمنهم- لا يعرف شيئًا عن الأخلاق والعادات الكريمة، ولأن زعماء جاهليتنا ليس فيهم أمثال المطعم ولا زمعة ولا هشام، وغاب عنهم حكيم بن حزام الذي كان يمد عمته خديجة بالليل سرًا بالطعام والشراب.
Telegram Center
Telegram Center
Channel