وقد نجح المجاهدون بفضل الله في تجاوز حدود العدو، وتعطيل منظومة الاتصال والتصوير في أكبر عملية خداع للعدو لن ينساها في تاريخه، ووصلوا إلى القواعد العسكرية، وانقضوا على جنود العدو، فقتلوا نحوًا من ألفين، وأسروا زيادةً عن مائتين.
وما إن استوعب العدو ما جرى حتى بدأ في حربٍ مجنونةٍ لم تخف وطأتها حتى اليوم على مدار سنةٍ كاملة.
لقد قرر الكيان الصهيوني أن يسحق المجاهدين، ويفتك بالبلد، ويدمر فيه كلَّ شيء، وتوافد كثيرٌ من رؤساء دول العالم على مؤازرته في ذلك، وتسليحه بما يريد، وإعطائه الغطاء الكامل ليفعل ما يريد.
وبدأت حرب الإبادة، واستشهد الآلاف في بضعة أيام، وصارت الأخبار تأتي بقصف المساجد والمؤسسات والجامعات والكليات والشركات والمصانع وكثيرٍ من الأبراج والبيوت السكنية، وغير ذلك مما يشق تتبعه، وكان الذي نراه من البأس في المعارك السابقة في شهرٍ يمكن أن نراه في هذه المعركة في يومٍ أو بعض يوم.
ولم نكن قد جربنا قتال الولايات المتحدة الأمريكية حدَّ الاشتباك المباشر، وإذ بألفي جنديٍّ من جنود الأمريكان يحضرون إلى الكيان، مع طاقمٍ قيادي يتولى جزءًا من إدارة المعركة، ووصلت البوارج الأمريكية حاملة الطائرات، وبدا واضحًا من جملة ما تسطر وغيره أن النظام الدولي الحاكم -ممثلًا بالولايات المتحدة وكبرى الدول الأوروبية- قد قرر سحق غزة سحقًا تامًّا، ليتم الانتهاء تمامًا من هذه البقعة التي تقوم بالتشغيب بينٍ وقتٍ وآخر.
ثم إنَّ كلَّ ما قرأت كان نزهةً بالقياس مع بدء الحرب البرية!
ومع الدخول البري ونية العدو في تهجير أهل البلد إلى سيناء، والبدء في القصف البركاني المجنون كثر القتل، واشتد الخوف، وعظم الكرب، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وابتلي المؤمنون وزُلزلوا زلالًا شديدًا.
إي والله.
حتى صارت المناطق التي لم تشهد قتالًا قط من أول الانتفاضة ساحة حرب، لا يسهل أن تعرف معالمها؛ بل ولا ملامحها في بعض الأحيان.
وعلى المستوى الشخصي فقد بدأ كثيرٌ من الناس في توديع أحبابهم، وكتابة وصاياهم، وهُرع الناس إلى الاستغاثة بالله في دعاء القنوت وغيره.
ومع شدة البأس غير المسبوق، والسرعة الجنونية في عداد الشهداء اليومي، وقصف البيوت على رؤوس أصحابها بما لم نعهده من قبل.. أخذ بعض الدعاة يبشرون الناس بنصرٍ قريبٍ؛ أخذًا من قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ [يوسف: 110]؛ إذ تفيد الآية أن النصر قرين اليأس، وأنه متى بلغ الضيق مبلغ الاستيئاس فالنصر قريب.
وهذا يعني -على ما نفهمه من الآية- أنه لا يفصلنا عن نهاية المعركة إلا أيامٌ معدودة، ولهذا كان الرجل إذا سُئل: متى تتوقع أن تنتهي الحرب؟ وقال بعد شهرٍ مثلًا.. فإن ذلك من شأنه أن يُنزلَ الضيقَ بالسائل حدَّ التبرم.
وأذكر في شهر 12 الماضي أنَّ بعض الناس كانوا يدندنون حول صفقةٍ متوقعةٍ سُتبرم في غضون أسبوعين، فكان ذلك قاسيًا على النفوس، ولكأن المدة المتبقية بضعةُ شهورٍ أو سنين!
ومضى وقتٌ كأن اليوم فيه شهر، والشهر الذي انصرم كأنه يوم؛ لأنَّ النفس تطيل التأمل في يومها وتكون ذاهلةً عما مضى من أمسها فيختل النظر.
ومن المعلوم أنه عقب التهدئة التي جرت بعد 48 يومًا من بدء المعركة جاءت معاناة النزوح، وتبين للناس أن التحصل على خيمة يشبه التحصل على بيتٍ فخم، وكان البرد شديدًا، واشتد معه الجوع، وفقدت السلع، وكثيرٌ من الأدوية، وشرب الناس الماء الملوث، وقُطِعَت وسائل الاتصال، وكذلك الانترنت، وقد قطع التيار الكهربائي من ثالث أيام المعركة من قبل، وسكن السواد الأعظم من الناس الخيام، وتساوى الناس، وصار من الممكن أن ترى صاحب الشركة أو المصنع الذي كان يملك من المقدرات ملايين الدولارات يبحث عن قوت يومه، ويقف مع الناس في طابور التحصل على صحنٍ من الطبيخ.
وفي التفاصيل لقد جرَّب الناس أصنافًا من البلاء لم تخطر لهم ببال، حتى إنه ليمكن عد الحروب السابقة نزهةً حقيقيةً بالقياس عما نرى، وصرنا نستذكر ما بلغنا عن إخواننا من قبل في العراق وأفغانستان وسوريا وغيرها من بلاد الإسلام.
إن الحزامات النارية مثلًا التي قد يأتي ذكرها باردًا في الأخبار هي فتنةٌ بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنى، ولو كانت القيامة عبارةً عن حزاماتٍ ناريةٍ لكانت رعبًا يستحق أن يتعب الإنسان مدة الدنيا في التعبد وفعل البر ليكون من الذين يأتون آمنين منه يوم القيامة، ويأخذ في تتبع النصوص التي تُبشر بعض الفئات بالأمن والأنس والاستظلال في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله.
وحتى قصف البيوت وإن كان معتادًا من قبل إلا أنه كثيرًا ما كان يُسبق بالإنذار المبكر من خلال اتصالٍ هاتفيٍّ بأهل البيت، أو بصاروخ زَنَّانة -مُسيَّرة- يسبق الصاروخ المُدمِّر، أما في هذه المعركة فيتم قصف البيت من غير سابق إنذار.