س: كيف استطاع مصعب بن عمير نشر الإسلام في المدينة في سنة واحدة؟ ولماذا لم يحدث ذلك مع أهل مكة؟
ج: العرب كانوا أصحاب فطر سليمة بالجملة ولم تكن لديهم حجج عقلية بل كانت نفسية .. وأعظم حججهم على الإطلاق تقليد الآباء .. ومن رحمة الله بأهل المدينة أن جاءت الدعوة بعد مقتل آبائهم يوم بعاث .. روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَدِمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقَدِ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ، وقُتِّلَتْ سَرَوَاتُهُمْ وجُرِّحُوا، قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في دُخُولِهِمْ في الإسْلَامِ.
مع معرفة أهل المدينة بما يقوله اليهود عن النبي المنتظر .. فسبقوهم إليه ..
فكانت هذه الأسباب مع صفاء قلوب أهل المدينة أقوى ما دفعهم للدخول في الإسلام ..
إذا طرق القرآن سليم الفطرة، نقي القلب، صافي النفس، جيد العقل، تكون النتيجة الإسلام ولابد ..
ولا شك لدي بأنّ الشيطان وراء ابعاد الناس -خاصة طلاب العلم- عن السيرة النبوية تأملا ودراسة كما قام بالإبعاد عن تدبر القرآن وتأمله والعيش معه ..
ألا يعجب المرء من تقصير الخاصة قبل العامة في التعامل مع القرآن مع اعتقادهم عظمة هذا الكتاب وفخرهم به وحديثهم عنه !
يسهل على المرء الحديث الطويل عن عظمة القرآن ويشق عليه أن يعيش مع سورة واحدة عيشا يثمر الإيمان والعلم والوعي والعمل؟!
وألا يثير العجب غفلة الكثير من المهتمين بالعلم والوعي والدعوة والثقافة عن مركزية السيرة في معرفة الإسلام وعدم القدرة على فهم القرآن من غيرها ؟!
تكرار الحديث والتطبيق العملي وإقامة الدروس والمشاريع الموصلة إلى القرآن والسيرة النبوية من واجبات الدعوة لا مستحباتها ..
مع التذكير بأنّه في كل مرحلة تدخل مجموعة جديدة بوابة العمل والدعوة لابد من طرق هذه المعاني أسماعها .. حتى لا يأتي جيل من الدعاة يقول: "مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ"
وهذا من أسباب التذكير الدائم بالإيمان - الشيطان - الصلاة .. الخ في جميع مراحل الدعوة مع كثرة سماع من دخلها منذ بدايتها ..
تقام الحجة على اللاحق وتتأكد المعاني وتتمركز في قلب السابق ..
كل ما يقع في زماننا من فتن سبق وقوعها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بما هو أشد وأعظم..
فإن كان المسجد الأقصى أسيرا بيد الكفار في زماننا، ففي زمانه لم يكن المسجد الأقصى وحده، بل معه الكعبة المعظمة وحولها أكثر من ثلاثمائة صنما، بل لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم إليها وهي مطهّرة من الأصنام إلا آخر سنتين ونصف من حياته !
وإن كان القتل في زماننا واقع على عامة المسلمين ففي زمانه كان الذي يقتل خير الناس بعد الأنبياء = الصحابة ..
وإن كانت الجراحات والإصابات عمّت الكثير ففي زمانه كان هو -بأبي وأمي- المصاب ثم أصحابه .. فكم سقطت الدماء من تلك الأجساد الطاهرة النقيّة ..
كل هذا ليبين الإيمان وتظهر الأقوال والأفعال التي من أجلها خلق الله الإنسان ..
الفتن لابد من وقوعها .. قدّر الله أن تكون الحياة بهذه الصورة، حتى يعظم أجر المؤمنين ويحق القول على الكافرين ..
يبقى الأمر المهم وهو الذي ينبغي أن تنصرف الأذهان إليه = كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الفتن؟ ما سبيل النجاة؟ ما طريق الخلاص؟ كيف نحقق العبودية لله بالإتباع له؟
البحث عن الإجابة ثم السعي والاجتهاد في الامتثال هو الواجب علينا القيام به ..
مع التذكير بأنّ أسر المسجدين من أقوى دوافع المسلمين للعمل والجهاد لا العزلة واليأس والإحباط ..
لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم وسيلة فك الحصار عن المدينة يوم الأحزاب، لكنه موقن بنصر الله باذل ما يستطيع من أسباب، فلمّا حقق العبودية هو وأصحابه وأثبوا لله المحبة، أرسل الله جنوده القدرية فأمر الريح بفض الجموع وقلب القدور، وقذف بقلب نعيم بن مسعود الإسلام..
لا ندري كيف سيفرج الكرب عن إخواننا في غزّة، لكننا على يقين بوعد الله ونصره لأوليائه إنْ هم ونحن حققنا العبودية لله، وبذلوا وبذلنا ما نستطيع من أسباب ..
لا تقصّر بالدعاء والتثبيت والتذكير والتخذيل عنهم ما استطعت والسعي لتحصيل القوة الحامية للإسلام وأهله، واعلم بأنّك عبد موفق إن كان هذا وصفك وهمّك، مع استحضار عظم التقصير في حقهم مهما فعلنا لهم ..
إذا أردت أن تعرف الموفق من الدعاة ممن يستحق شرف الاتباع لإمام الدعاة -صلى الله عليه وسلم- فانظر إلى حاله عند وقوع الشدائد..
هل فشو الفتن وانتشارها وقوة الباطل وهمينته يزيد من حسن ظنه بربه أو يزعزعه؟!
هل يقول كما قال سيد البشر وصفوة الخلق وهو طريد من مكة والطائف لملك الجبال بعدما عرض عليه إطباق الجبلين على من اشتدّ كفره برسالته: بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا !
هل يستبشر بتجمع الأحزاب بل ويبشر أصحابه بفتح الممالك الكبرى في زمانه ؟!
هل يقول كما قال موسى -عليه السلام- وقد حصر من أمامه ومن خلفه: (كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)
هل ظنّهكظن المنافقين يوم أحد المطابق لظّن الكفار: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)
معادلة: اشتداد الفتن وقوة الباطل إذا قوبلت بيقين أهل الحق وثقتهم بربهم وبذلهم وسعهم فالنتيجة = ما وقع للنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب، وما حدث مع موسى -عليه السلام- يوم عاشوراء ..
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال سعد بن عبادة: لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له : "نعم" . قال : كلا ، والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك . قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( اسمعوا إلى ما يقول سيدكم ، إنه لغيور ، وأنا أغير منه ، والله أغير مني )
وفي حادثة الحديبية يقول عمر بن الخطاب ما يقول، فيعامله النبي -صلى الله عليه وسلم- برفق ولين، ولمّا أنزل الله سورة الفتح دعاه فور نزولها وبشّره بالفتح ..
تأملوا في طريقة تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الموقف، لم يستخدم الشدّة ويقهر النفس، بل بيّن الحق واستعمل الرفق وسكّن النفس..
ليس من الحكمة الشدة في التعامل مع الأشخاص الثائرة نفوسها، وليس معنى كون الحق مع الشخص الطغيان في البيان، والترفع على الناس..
الواجب على الداعية تقريب الحق للناس، وانتقاء العبارات غير الجارحة ولا المستفزّة، وتحديد الوقت المناسب للبيان..
لا تنتظر من المقهور الاستجابة عند الشدّة والغلظة عليه ..
من يتأمل طبيعة الدعوة في السيرة النبوية، يلحظ قوتها في المدينة، ووجودها في بقية البلدان على تفاوت في القوة.
مما يستفاد من ذلك عملياً:
١.ضرورة إيجاد بيئة حاضنة للدعوة، تحمي الإسلام وتصوراته من الزوال والتغير.
٢.قيام الدعاة في بقية البلدان بالعمل للإسلام وفق الطاقة والقدرة.
٣.أهمية صناعة أعمال نوعية في كل بلد تتبع المنهجية النبوية في الإعداد والإرتقاء، وأعمال أخرى يكون حال العمل والدعوة فيها كحال بقية البلدان.
أي: ينبغي على صاحب الموهبة والقدرة في كل بلد = إنشاء وصناعة أعمال تنتج الكوادر القوية والأرقام الصعبة، وترتقي بالدعوة وفق معطيات المرحلة، ولا تكتفي بما يقوم به عامّة العاملين من أعمال عامّة.
كل مرحلة من مراحل الدعوة لها خطاب.. يختلف الخطاب العام فيها عن التربية الخاصة.. ينظر المصلح إلى المشهد ويقدر القصور ثم تكون الكلمات والمشاريع، حتى إذا تم الانتقال بها من هذه المرحلة يتم تغيير الخطاب وفق طبيعة المرحلة الأخرى..
من السيرة: طبيعة الخطاب العام في مكة يختلف عن طبيعة الخطاب العام في المدينة، بل حتى في المدينة كان الخطاب العام يتغير مع تغير المراحل وتقدم الدعوة وارتقاء أصحابها.. والتربية الخاصة كانت مستمرة طيلة مراحل الدعوة..
في كل مرحلة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرب منه من يتفرس فيهم الرغبة والقدرة ممن ينضم إلى الدعوة..
تأمل في تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أسامة بن زيد ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وزيد بن ثابت وغيرهم، وانظر إلى وقت دخولهم في الدعوة وطريقة تربيته لهم وطبيعة الخطاب الذي كان يوجهه إليهم.. ثم انظر بعد ذلك إلى أثرهم في حفظ الإسلام ونصره..
من المهم على المصلح معرفة الخطاب العام المناسب للمرحلة وتقريب من يصلح للتربية الخاصة وصنعه الصناعة المناسبة لقدراته ودوره في الإصلاح..
من الطرق التي تحل إشكال عدم قدرة المصلح على صناعة الخاصة لبعد المكان = صناعة المشاريع المناسبة ووضع الشروط والاجتهاد في صنع الاختبارات التي يصل من خلالها للشريحة المقصودة..
غضب النبي صلى الله عليه وسلم على من طلب منه الدعاء لرفع الكرب والبلاء في مكة وذكرهم بصبر السابقين .. جاء في البخاري عن خباب بن الأرت أنّه قال: شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ.
ولما تعرض آل ياسر إلى البلاء المفضي إلى القتل مرّ عليهم وصبرهم قائلاً: صبراً آل ياسر فإنّ موعدكم الجنة.
وفي موطن ثالث يأتيه أحد أصحابه مهاجراً إلى المدينة بعد التخلي عن ماله الذي جمعه طيلة عمره فتكون الإجابة: ربح البيع أبا يحيى.
لماذا اختلفت طرق التعامل مع هذه الوقائع وكيف ننتفع منها في واقعنا الدعوي؟!
الجواب: في الموطن الأوّل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع الجماعة المؤمنة التي ستقوم عليها رسالة الإسلام، فكان لابد من تربيتها على الصبر وعدم الجزع حتى تقدر على القيام بأعباء الدعوة وثقل الرسالة وليس معنى ذلك عدم الدعاء..
كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها بثبات السابقين كما كان القرآن يقص على الرسول صلى الله عليه وسلم ثبات الأنبياء .. فكما ثبت وصبر الأنبياء فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى منهم بالثبات والصبر .. وكما ثبت أصحابهم وأتباعهم فأصحاب خير الأنبياء وأتباعه أولى بذلك منهم ..
أمّا في موقف آل ياسر فقد ثبتوا وصبروا حتى بلغ بهم البلاء إلى حد القتل فكان واجب الداعية الإعانة وتقوية العزم والتثبيت بالتذكير بالجنة ..
الفارق بين الموقفين أنّ الأوّل كان القصد منه التربية على التحمل أمّا الثاني فقد احتمل أصحابه البلاء حتى كاد يصل بهم إلى القتل..
أمّا الموطن الثالث: فكان الجواب عجيباً وغريباً وعظيماً .. من تخلى عن ماله واستقبل الحياة فقيراً معدماً، تبقى حسرة الفقد على السنوات والكد والتعب تراوده الفينة بعد الفينة إن كانت الإجابة بالتصبير والتعزية لأنّ التصبير مسكن للحزن لا قاضي عليه.. لكن لمّا كانت الإجابة بألفاظ التجارة الدالة على عظم الفوز.. فكلما تذكر صاحبها الأوقات والأعمال التي أنفقها في تحصيل الأموال التي ضحى بها قربة لله واستحق بها: ربح البيع .. فسيتمنى لو عاد به العمر حتى يكد ويكدح ويضحى بأعظم مما ضحى !
تغيير العبارات أثر في طريقة تعامل النفس مع الحادثة ..
ففي التصبير تسكين للنفس الحزينة وفي الغبطة فرح صاحبها ودفع نفسه للتقدم والاستكثار من فعل الطاعات وتعظيم القربات..
السيرة النبوية | أحمد الهاجري pinned ««» 🔸 السيرة النبوية للمصلحين (للشيخ أحمد الهاجري): ١- المجلس الأول ٢- المجلس الثاني ٣- المجلس الثالث ٤- المجلس الرابع ٥- المجلس الخامس ٦- المجلس السادس ٧- المجلس السابع ٨- المجلس الثامن ٩- المجلس التاسع ١٠- المجلس العاشر ١١- المجلس الحادي عشر…»
لكل قول وفعل من أقواله وأفعاله -صلى الله عليه وسلم- تكييف عملي في الدعوة إلى الله ..
بمقدار فهم السيرة واستيعاب طبيعة المواقف بمقدار الاستفادة منها في التطبيق العملي في الدعوة إلى الله ..
يتلقى الإنسان العلوم على سبيل العموم .. ثم يبدأ بأخذ التفاصيل شيئاً فشيئاً حتى تتضح عند الطالب قواعد العلم وطرق تنزيلها ..
معرفة القواعد = المرحلة الأولى وليست الأخيرة .. ومن الخطأ الاكتفاء بها ثم التساهل بالتنزيل من غير فقه التفاصيل ..
مثال: قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم- في المسير إلى تبوك تخلف فلان فكان الرد: دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه! حتى قيل تخلف أبو ذر فكان الرد مثله!
وفي موقف آخر يؤتى بسكران فيأمر بضربه فيضربه الصحابة حتى يقول بعضهم: ما له أخْزَاهُ اللَّهُ، فيرد النبي صلى الله عليه وسلم: لا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ علَى أخِيكُمْ.
وفي موقف ثالث يؤتى برجل أرسل رسالة يخبر بها أهل مكة بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله عن السبب ثم يقول: صَدَقَ، فلا تَقُولوا له إلَّا خَيْرًا. وينكر على أنكر عليه واتهمه !
لهذه المواقف فقه بالتنزيل .. في موطن نقول عمن قصّر وتخلف: دعوه ولا نبالي به! وفي موطن: نعنفه ونعاقبه ولا نعين الشيطان عليه! وفي موطن: نستفسر منه ولا نعاتبه فضلاً عن عقابه!
من يعرف الإنسان يتعجب غاية العجب من قدرة سيد البشر ﷺ على إدارته بالطريقة التي صنعها ..
أصعب أنواع الإدارة = إدارة البشر ..
والشعوب التي قادها عظماء التاريخ عامتها كانت مكسورة ذليلة فسهل أمر إدارتها على قادتها ..
بينما الجيل الذي بعث فيهم صفوة الخلق ﷺ كان من أخص أوصافهم الأنفة ..
فلم يقدر أحد قبله على سياستهم كما ساسهم -بأبي وأمي- ولم تكن في سياسته لهم ظلم كسر تلك الأنفة وحطم تلك العزّة ؟!
إذًا كيف استطاع قيادة الناس وسياسة النفوس المختلفة التي يصل اختلافها -أحيانًا- حد التناقض ؟!
لماذا لم يغضب على فلان مع خطئه ؟! وصوّب خطأ فلان باللين ؟! وآخر استعمل معه الشدة ؟! ورابع قابل غضبه بالرد اللطيف ؟! وخامس نصحه تعريضًا ؟! وعدّل جلسته لما دخل من كان أخص أوصافه الحياء ولم يصنعها مع من هو أعظم منه ؟!
والشورى في جميع الأمور ثم إغلاق الباب بعد العزم؟!
وأخذ البيعة من كل فرد ثم وضع العرفاء والنقباء بعد ذلك ؟!
من يعرف اختلاف النفوس وطبيعة السياسة وعلم الإدارة ..
يجزم بأنّ النبي ﷺ مصنوع صناعة خاصّة مختلفة عن جميع البشر للمكانة التي أعدّت له ..
قيادة العشرة أسهل من قيادة المائة .. وقيادة المائة أيسر من قيادة القطر .. وقيادة القطر أهون من قيادة الأمّة .. وقيادة الأمّة أخف من قيادة البشرية !
تفرد النبي ﷺ بقيادة البشرية ..
في سيرته المنهاج التربوي الذي يستطيع من خلاله الحاكم للناس إدارتهم من غير كسر لنفوسهم ولا تحطيم لأخلاقهم كما يصنع الظلمة في عامة العصور تحت ذريعة = أنّ الأصل في الملك الظلم ولا يساس الناس إلا بذلك !
رسم النبي ﷺ الخطوط العامة ووسع الطريق حتى تقدر النفوس المختلفة للسير عليه من غير كسر ولا عجز ..
ليكن همنا من طلب العلم والدعوة إلى الله الوصول إلى هذه العبقرية وامتثالها في دعوتنا..