وقفت على جسد والدتي المنهك وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة
عاجز عن مساعدتها ..
أنظر الى خصلات الشيب التي تتدلى على وجهها وإلى
عيناها الغائرتان بيأس وإستسلام!!
لا أدري ما الذي رأته أمي حينها ،
لكني رأيت شريط حياتي يمر أمامي في تلك الساعة
رأيت أول مخاوفي وأشدها سوءً ورعبا!
لقد رافقني هذا الكابوس مذ وعيت على الدنيا
ولم يفارقني قط!
لقد كانت أول لحظة تسجلها ذاكرتي وأول مشهد أراه وأتذكره ،
وقفت نفس الوقفة على نفس الجسد وبنفس الخوف قبل سنين طويلة ،
الفرق الوحيد هو أن أمي آنذاك كانت نائمة .. لم تكن تحتظر!
بينما أنا كنت طفل صغير مغفل يراقب أمه وينصت إليها ..
هل مازالت تتنفس ؟!
وما أن يتأكد من ذلك يقوم بتقبيلها ثم يعود للنوم!
هذه أقدم ذكرياتي وأول ما أستذكره وأول شيء عرفته في الدنيا ، الخوف من رحيل أمي!
وفي الواقع لقد أستمرت معي هذه العادة حتى وقت قريب .. لطالما كنت أتسلل ليلاً إلى فراش أمي وهي نائمة
واطمئن عليها واقوم بتقبيلها احياناً والبكاء احياناً أخرى!
لماذا كنت أبكي ؟!
لا أدري .. كنت أفعلها وفقط!
رجعت إلى الحاضر .. جثوت على ركبتّي
وحنوت على وجهها أقبل عينيها وجبينها وكفيها
كنت أظن أن ما أقوم به سيمنع أمي من الموت
لكن عزرائيل كان له رأي أخر .. لم أعد طفلاً ليدللني!
تكاد أنفاسها أن تنقطع وهي بين يديّ ..
عدت للنظر في عينيها وإكمال مابدأته ..
رأيت حياتي معها ..
لم أكن أبناً مثالياً .. لكنها كانت أم مثالية بشكل مبالغ فيه!
لا أذكر متى أخر مرة عاشت فيها لنفسها!
لا أذكر متى أخر مرة طلبت فيها شيئاً!
لا أذكر متى أخر مرة وضعت فيها أساور أو حلي!
لا أذكر متى أخر مرة ارتدت فيها ثوب مبهرجاً وغاليا!
لا أذكر متى أخر مرة حضرت فيها حفلة او خرجت في نزهة
أو تابعت مسلسلاً أو تناولت حلوى!
انا لا أذكر حتى متى كانت أخر مرة أكلت فيها معنا أو شاركتنا المائدة ،
كانت تنتظرنا إلى أن ننتهي من طعامنا ثم تجلس لتأكل بعدنا
وتصر على ذلك!!
لا اذكر متى أخر مرة إشتكت فيها من أي شيء!
كل ما أتذكره هي أياد عليها أثار الحروق وثياب عليها بقع الطحين والدقيق!!
كل ما أتذكره هو أقدام متورمة ومفاصل ملتهبة وعطاء دون مقابل!
كنت أظنها إمرأة خارقة تملك حل لكل معضلة !
نعم لقد كانت تملك الحلول لكل المعضلات لكنها لم تكن خارقة ..
لم أدرك هذه الحقيقة إلا بعد أن رأيتها ممددة أمامي دون حراك!!
أمي .. أمي .. ناديتها بصوت محشرج وجأش يكاد أن ينحل!!
وللمرة الأولى في حياتها لم ترد عليّ بعبارتها الشهيرة "حيييااا"!!
لقد أسلمت أمي الروح وهي بين يدي ..
الجميع يبكي من حولي وانا متبلد الذهن .. لم يوقظني من غيبوبتي هذه إلا حرارة العجز والهزيمة التي تحرق احشائي!!
لقد تحققت اسوء مخاوفي .. والان علي التأقلم مع كل هذا!
لن أراها ثانيةً .. لن أسمع صوتها .. لن أشعر بحسها مجدداً!
سيغطي الغبار حافات التنور .. ستأكل الرطوبة حزمات الحطب .. سيفصل خط الهاتف الأرضي .. ستطوى السجادة .. ستضيع المسبحة .. ستجف جرة الماء ..
سيصدأ القدح المعدني .. سيتسخ السجاد ...
سينطفىء جمر الموقد .. سنشتاق لرائحة البخور ..
لن يطرق محمد باب منزلنا ليصلح غسالة الملابس مرة أخرى!
لم يعد هنالك من يقول لي "لاتتأخر" !!
أمي الأن في القبر .. هي من ستتأخر عليّ هذه المرة!!
لقد كانت تجربة قاسية غيرت فيّ الكثير !
ادركت هذا ، في اللحظة التي أخرجت فيها والدتي من منزلها على ظهر نعشها إلى مثواها الأخير!
علمت حينها بأنني لن اعود إلى بيتنا وانا نفس الشخص!!
أشعر بحزن عميق ينهش روحي ويمزقها ..
أشعر بهوة في صدري لاقاع لها!
وزفرة لو اطلقتها لأرحت اسرافيل من النفخ في الصور!!
هنالك فضاء واسع وموحش في قلبي يتسع للمجرة!
فضاء مظلم حالك ليس هنالك ماهو أشد حلكة منه سوى مكان أمي الذي لن تعود للجلوس فيه ثانيةً!
هذا الشعور خارج حدود الأبجدية
وأبعد من أن يصفه شيطان فكر أو قاموس لغة!
لقد أسلمت امي الروح وأخر كلماتها "يالله انك وديعي"!
ومن لحظتها وانا أكرر نفس الكلمة "يالله انك وديعي" في جبر مصابي ، لك الحمد والشكر انت ارحم الراحمين سبحانك اني كنت من الظالمين!
-
#فضفضة_يتيم#من_حائط_مالك_المداني#عيد_الأم💔