في دورة من الدورات العلمية كان الشيخ عبد الرزاق البدر يشرح لنا كتاب الحج، فذكر لنا قصة شيخ كتب كتابا في أحكام الحج، كاد أن يستوعبها، حتى أصبح الكتاب مرجعا في بابه، ولكن ذلك الشيخ لم يكن قد حج قبل ذلك، وحينما ذهب إلى الحج في أول مرة له، وقع له حيرة واضطراب في أحكام الحج، فجعل يسأل الناس، فدلوه على كتابه!
استذكرت هذه القصة لما أراه من كثير من طلاب العلم ممن يكتب في السياسة، تراه يستعرض ما يعرفه في نقد وأحيانا -الحط- على إخواننا الذين يقاتلون اليهود ويقدمون دمائهم وأموالهم وأهليهم في سبيل ذلك، ينقد وينقل ويقلل من جهدهم، يريد بذلك أنهم أخطأوا في التقدير، وأنهم لا يفقهون في المصالح السياسية أو العسكرية، فيقع في النفس: ماذا لو كان واحد من هؤلاء الذين يستعرضون معلوماتهم السياسية، في منصب سياسي أو عسكري على أرض الواقع، هل ستسعفه معلوماته وسياسته التي لا تتجاوز "ذهنه" كصاحب كتاب الحج.
لا شك أن الخطأ في التقدير وارد عليهم -أعني المقاومة- وعلى غيرهم، فهم بشر وفهم المصالح والمفاسد درجات، لكن لماذا يتم إغفال أن السبب الأكبر للخسائر الواقعة والمؤلمة إنما بسبب خذلانهم وتركهم من عامة الدول العربية، أم أن السياسة منفصلة عن الواقع؟
يا ليت مثل هؤلاء يشفعون نقدهم -لو كان في محله- بالدعاء لهم وسؤال الله لهم بالثبات والظفر، إخوانك الآن يُقاتلون فيقتلون ويقتلون، لماذا تحط عليهم وتزيد من مصابهم وتكون سببا في نفرة الناس عنهم وهم في هذه الحالة؟
ليس بالأمر الجديد لعموم الدول العربية، إنما الأمر بين الظهور والخفاء، وبالمناسبة كثير من الشيوخ في هذه الأمور الظاهرة في مولاة أعداء الله من اليهود تجدهم {هل تحس منهم من أحد أو تسع لهم ركزا}.
• لما نهى الله المؤمنين عن توليهم، أخبر أن ممن يدعي الإيمان طائفةً تواليهم، فقال: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي: شك ونفاق، وضعف إيمان، يقولون: إن تولينا إياهم للحاجة، فإننا {نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي: تكون الدائرة لليهود والنصارى، فإذا كانت الدائرة لهم، فإذا لنا معهم يد يكافؤننا عنها،
• وهذا سوء ظن منهم بالإسلام، قال تعالى -رادا لظنهم السيئ-: {فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} الذي يعز الله به الإسلام على اليهود والنصارى، ويقهرهم المسلمون{أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِندِهِ} ييأس به المنافقون من ظفر الكافرين من اليهود وغيرهم {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} على ما كان منهم وضرهم بلا نفع حصل لهم
• {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} متعجبين من حال هؤلاء الذين في قلوبهم مرض: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي: حلفوا وأكدوا حلفهم، وغلظوه بأنواع التأكيدات: إنهم لمعكم في الإيمان، وما يلزمه من النصرة والمحبة والموالاة، ظهر ما أضمروه، وتبين ما أسروه
هذا مشهد من مشاهد الظالمين وصورة من صورهم، فيأت قد غُلت يده إلى عنقه وذقنه فارتفع من ذلك رأسه فلا ينظر إلا لفوقه، وقد ثبت بصره فلا يتحرك طرفه من شدة رعبه، وقد فرغ قلبه ولم يبق فيه إلا الخوف.
مع مشاهد هذه الإبادة لإخواننا في شمال غزة، وتكبيل اليدين من الأنظمة لشعوبها عن نصرتهم، فمن أعظم ما يواسي به المسلم نفسه قراءة الآيات التي ذكر الله فيها عقابه للكافرين والظالمين وأعوانهم، وما ينتظرهم من سوء الحال وما سيعجل لهم في الدنيا.
من أعظم ما يقوم به المسلم في أوقات الشدة وضعف الأمة عامة: أن يحث إخوانه على حسن الظن بالله سبحانه مع حسن العمل، فحين الشدائد والضعف يدخل الشيطان مداخله، بين سوء الظن بالله وبوعده، وبين تعليق النصر على صورة معينة، وبين الشعور بالإحباط واليأس والانكسار، وهذه أمور يفرح بها العدو، وهذا الذي يريده. ولا شك أن العجز عن نصرة إخواننا وجع في القلب وجرح لا بندمل إلا أن نكون معهم وفي خندقهم، ويبقى الأمل بالله العظيم.
رحم الله القائد المجاهد يحيى السنوار، وأسكنه فسيح جناته.
الموت في سبيل الله شرف عظيم، وهو أيضا درجات، فكل وصدقه مع ربه، فيتباين المجاهدون فيما بينهم، فكلما صدق نال...
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: عن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد ألا تأتي فندعوا الله فجلسوا في ناحية فدعا سعد وقال: يا رب إذا لقيت العدو غدا فلقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقاتلني ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذ سلبه فأمن عبد الله بن جحش
ثم قال -أي عبدالله بن جحش-: اللهم ارزقني غدا رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقاتلني فيقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك قلت: يا عبد الله فيم جدع أنفك وأذنك، فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت. قال سعد كانت دعوة عبدالله بن جحش خيرا من دعوتي لقد رأيته آخر النهار وإن أذنه وأنفه معلقان جميعا في خيط.
"والعباد أبعد عن معرفة الله وحكمته في خلقه من معرفة عوامهم بالحساب والطب والنحو، فاعتراضهم على حكمته أعظم جهلا وتكلفا للقول بلا علم من العامي المحض إذا قدح في الحساب والطب والنحو بغير علم بشيء من ذلك"
هذا التنبيه أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع، أن ما يقوله الإمام أحمد ليس هو قولا لأحمد فقط، بل هو جزء من مجموع أئمة أعلام قالوا بقوله أو هو قال بقولهم، فمسألة تكفير القائل بخلق القرآن، ليس هذا خاص بالإمام أحمد، بل ستجد الثوري ووكيع وحماد وغيرهم كثير ينصون على ذلك، وما أشار إليه الشيخ العجلان من ظهور انتقاد الإمام أحمد والرد عليه من جهة بعض المعاصرين، لعله قد لحظه من قريب، وإلا فالأمر قبل هذه الآونة، وقد تأثر بذلك بعض المتسبين للسلف، باسم "الإنصاف" فعرضوا بأحمد وبأقواله، فإذا طرأ على بعض هؤلاء إشكال في فهم أو توجيه كلام الإمام أحمد، فإنه يباشر إلى التعريض بالإمام، وهذا لا شك قلة اطلاع وتأثر بالساحة وسير مع التيار كيفما كان!
يتردَّد عند عددٍ من المعاصرين نقد موقف السلف في مسألة خلق القرآن، فالقضية في نظرهم كان فيها إغراق في نزاعٍ لفظي، أو تكلُّف ما أنزل الله به من سلطانٍ، أو أنَّ الموقف كان فيه مبالغة أو تضخيم عن حقيقته، ويأتي توجيه النقد في هذا بصورة أكبر للإمام أحمد رحمه الله.
وهذا النقد في الحقيقة عند المعاصرين مسبوق بكلام بعض المتأخرين.
وهذا النقد لا يوجه إلى بعض المواقف الخاصة أو الجزئيات المتعلقة بهذه المسألة، وإنما يأتي على أصل هذه المسألة.
والحق أنَّ هذا تصور ساذج وقاصر جدًا، فالموقف في هذه القضية لم يكن رأيًا خاصًا لأحمد أو لفئةٍ معينةٍ تابعة له، أو تأثر بها بحيث يمكن أن يقال فيها مثل هذا الكلام، وإنما هو موقف طبقات متتابعة من أئمة السلف، في عصر الإمام أحمد، وقبله بكثيرٍ، فهو إجماع متوارث سائر على مسلك واحد، فالتعامل معه بهذه الطريقة هو تسذيج وتسطيح لموقف هؤلاء الأئمة في المسائل الكبار.
فإذا جئت إلى مسائل مما أجمع عليها أكابر هذه الأمة فلم تفهم وجه ذلك، فإنَّ العاقل يجعل هذا سببًا لأن يراجع نفسه ويفحص موقفه حتى يصحح فهمه، لا أن يبحث عن تفسيرٍ لما لم يفهمه، بل الواجب عليه أن يفهم الأمر على حقيقته، فهو كمن ينظر في حادثة قتال الردة في عهد أبي بكر رضي الله عنه فلا يفهم وجه ما حدث، ويرى أنه مخالف لأصول الشريعة، ثم يبحث عن تفسير ذلك، فالعقل يقول له لا تبحث عن تفسيرٍ لفهمك الخاطئ، وإنما ارجع فحاول تصحيح فهمك.
ولهذا فموقف السلف الشديد من هذه المسألة كاشف عن علمٍ بالشرع، وبصيرةٍ وعقلٍ وفهم، فهذا الموقف له عدة دوافع، من أهم هذه الدوافع: صيانة الفهم الصحيح لخطاب الوحي، وضمان معرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، فالخلل في هذا الباب خطر جدًا لأنه يؤثر على أصل الفهم عن الله وعن رسوله، ويعبث بمفاتيح الوصول إلى الحق.
فالقول بخلق القرآن ليس نزاعًا لفظيًا في عبارةٍ تطلق على القرآن أو تنفى عنه أو يتورَّع الشخص فيسكت عن الأمرين، وإنما هو ثمرة ونتيجة للموقف من صفة الكلام لله تعالى، والموقف من هذه الصفة هو في سياق الموقف من أسماء الله وصفاته، وهذا الموقف مستفاد من آيات كثيرةٍ في القرآن الكريم، ومن أحاديث متواترة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فتحريف هذه النصوص كلها، وتأويلها على غير ظاهرها المقصود يحفر إشكالًا عظيمًا في كيفية فهم خطاب الوحي، ومعرفة مراد الله، ويضع العوائق ويعمق الصوارف الصادة عن الحق.
ويزيد من تعميق الإشكال أكثر ويوسع ضرره أنه مبني على أصول عقلية مسبقة تحاكم إليها دلائل الوحي، فلا يكون خطاب الوحي هو الأساس الذي يحتكم إليه عند الاختلاف، وإنما هو خاضع لهذا المنهج المحدث.
ولهذا يشيع في آثار السلف تأكيد هذا المعنى كثيرًا، والتعبير عنه بمعانٍ مختلفة، من ذلك ما قاله الإمام أحمد: (ما أحدٌ على أهل الإسلام أضرّ من الجهميّة، ما يريدون إلّا إبطال القرآن وأحاديث رسول الله).
وحين نذهب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو من أخبر الناس بهذه المسألة، ومن أعلم الناس بالخلاف الكلامي مع مذهب السلف وآثاره، فإنك تجده يكرر هذا المعنى كثيرًا، ويثبته في مفصَّل المسائل، فيقول مثلاً في بعض آثار هذا الخلل في الفهم: (فإنه بهذا الطريق تمكنت القرامطة الزنادقة الملاحدة من إفساد دين الإسلام؛ حيث احتجوا على كل مبتدع بما وافقهم عليه من البدعة من النفي والتعطيل، وألزموه لازم قوله، حتى قرروا التعطيل المحض).
ويذكر الشيخ من أمثلة ذلك استطالة الفلاسفة على المتكلمين، فألزموهم بتأويل ما جاء من نصوص الجنة والنار والبعث الحقيقي للأجساد كما تأولوا آيات الصفات، فإذا فتحت باب التأويل على غير هدى، وسوغت تحريف الدلائل القطعية في بابٍ معين، فإنَّ هذا يضرب أصل باب الفهم، ويكسر قاعدة الاستدلال، ويجعل تمسكك بالقطع في بابٍ دون بابٍ لا معنى له، فما معنى أن تشدد في الآيات الواردة في الجنة والنار والبعث وتكفر من ينكرها، وأنت تتأول نفس النصوص القطعية في بابٍ آخر؟
ويقال مثل هذا مع بعض المعاصرين، فإذا هونت من المنهج الذي يتأول النصوص في باب الاعتقاد عن الله بناءً على أصوله العقلية المحدثة، فكيف يستقيم لك الرد على التأويل الحداثي المعاصر الذي يتأول كافة الأحكام والشرائع بناءً على منهج عقلي محدث؟!
فلا معنى لأن تتمسَّك بالقطعية في هذا الباب، وتشدد النكير على من يخالفه إلا بعد أن يستقر عندك وجود فهم قطعي، ودلائل ظاهرة، وإجماعٍ للأمة، قائم على منهج التسليم لله ورسوله، والاحتكام لخطاب الوحي عند الاختلاف، والخلاف في مسألة خلق القرآن يعبث بهذه المنطلقات كلها.
ولهذا شدد السلف في هذا الباب لأنهم يريدون حفظ الدين كله، بخلاف غيرهم ممن يدرك أهمية حفظ الدين في باب دون بابٍ، فهو يشدد على التحريف في الباب الذي يدرك خطورته، ويستهين بما عداه، أو لا يتفطن للخلل فيه.
ها قد دخلت العشر من ذي الحجة، وليس الشأن في علمك أنها من خير أيام الدنيا، إنما الشأن في عملك في هذه الأيام، ومما أذكره من كلام ابن القيم رحمه الله، قوله: (فمن كان وقته لله وبالله فهو حياته وعمره ، وغير ذلك ليس محسوبًا من حياته وإن عاش فيه عيش البهائم ، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة ، كان خير ما قطعه به النوم والبطالة ، فموت هذا خير من حياته).
عالم مليء بالظلم، الكل يشاهد قذارة "أمريكا" ومشاركتها في القتل مع دولة الكيان الصهيوني، يجتمعون ويتناقشون على دماء إخواننا في غزة، يتكلمون بكل وقاحة وقذارة عن كمية الذخائر ونوعها التي سيقتلون بها النساء والأطفال من أجل حماية إخوان القردة والخنازير، وضمان إحتلالهم لأرض ليست لهم، ودول العالم العربي (تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت) لسان حالهم ومقالهم (يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) لكن نرجوه سبحانه (أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين).
ليتبين بذلك المؤمن من المنافق، الذين لما أمروا بالقتال{ وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله} أي: ذبا عن دين الله، وحماية له وطلبا لمرضاة الله،
{أو ادفعوا} عن محارمكم وبلدكم، إن لم يكن لكم نية صالحة... ويستدل بهذه الآية على قاعدة "ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما، وفعل أدنى المصلحتين، للعجز عن أعلاهما" ؛لأن المنافقين أمروا أن يقاتلوا للدين، فإن لم يفعلوا فللمدافعة عن العيال والأوطان.
قراءة متأخرة للكتاب، لكن الكتاب مهم ومن المفيد الاطلاع عليه...
من غير إطالة، جمع المؤلف بين سلاسة الأسلوب والمنهج العلمي المطلوب، فسلك طريق تفسير كلام الإمام أحمد بكلامه الآخر، ثم كلام أصحابه وطلابه، لم يتكلف في تفسير كلام أحمد تكلفا يشعر القارئ ببقاء الإشكال أو بضعف الجواب، "كما قد يقع لمن يستدل بكلام الإمام على التفويض"، إنما يجمع نصوص أحمد على اختلاف مواضعها ويضعها أمامك ويأت بكلام أصحابه ويضعها أمامك ويأت بكلام طلابه ويضعها أمامك، فما إن ينتهي القاريء من الكتاب إلا وقد اكتملت الصورة عنده من غير تشويش ولا تعقيد، حتى إنك لتشعر أن شرح المؤلف لكلام الإمام وأصحابه وطلابه وتعقيبه نوع تبرع من المؤلف، وإلا فقد جمع من النصوص ما لا يُحتاج معه إلا التسليم.
رمضان كله من آوله لآخره {أياما معدودات} فهو أيام قليلة، هذه الأيام المعدودات منها العشر الأواخر، فهي قليل من قليل، الكسل في القليل من القليل، خسران وحرمان. ثم أيّ كسل يصيبك وأبواب الجنة مفتوحة وأبواب النار مغلقة، ومردة الشياطين مصفدة، والملائكة تنادي من أول رمضان: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر... ماذا تريد أكثر من ذلك؟ وماذا لديك حجة للكسل؟
ثم إياك إياك أن تقصر في دعائك لأهل غزة، إيمانك يحتم عليك الدعاء وللهج إلى الله لهم في كل يوم، فما بالك في هذه العشر؟