بالأوقات الفاضية، بتفتح جوالك تتفرج ع الصور، أغلبهم صاروا شهداء، وبتحس أنه الاشي حلم، مش حقيقة، كيف يعني استشهد؟ والأمر اليوم أشدّ حزنا، فش وداعات، ولا جنازات، ولا مراسم، وأحيانا فش قبر!
بتسرَح.. الحرب كلها هيك برضه حلم! صار سنة؟ عنجد؟ والله تقول كذب يا راجل، وكل هالناس في المستشفيات مكلومة، وبالمخيّمات منكوبة وحالها لا يعلمه إلا الله..
بتمشي بالشوارع، كانت زاخرة بالحياة ومحلات وسيارات وزحمة ودنيا، صارت خاوية وهامدة ومش بس فارغة، ملامحها ممسوحة، وملهاش معالم أو أثر.. لا ضل رصيف ولا ضلت جزيرة، والأسفلت بتعرفش وينه، الشوارع كلها رمل ووعرة، وبطّل في سيارات ولا اللي بتحبهم وكانوا يمشوا معك من هان، أو طريق الشغل ومكان الشغل اللي كنت تقضي فيه وقتك، المكان راح، واللي كانوا معك يا استشهدوا، يا راحوا ع الجنوب ومبَهدلين بالخيَم، يا محاصرين بالشمال، يا بنقلوا ميّ أبصر كم كيلوا..
بتشوف صاحبك صدفة، بتنبسط، لسا في حد عايش، بس عن شو بدكم تحكوا؟ عن الحرب؟ عن أمدها الغامض؟ عن السوق الفارغ؟ عن أسعاره الفلكيّة للسلع غير المغذيّة ولا مفيدة! ممكن هو يشكيلك ويقلّك طوّلت يا راجل، وأنت تقعد تربط ع قلبه وتقله كله بأجره، وممكن العكس..
ولما تمشي بالشوارع، وتشوف أبراج أحيلت ركام، ومساحات شاسعة من المباني تحولت لصحراء من الردم، بتسأل حالك عن الناس اللي كانوا هان، وممكن يقطعك صاروخ نازل، أو ركض الناس ورا سيارة مي، وأنت رايح ع طابور الخبز أبو 4 ساعات!
بتحاول أنك تتأملش، وتسرحش، بتقول بدي أقرأ أو أحضر محاضرات، بس بصير عقلك بشكل لا إرادي يُسقط الأمور على واقعك المرير، بتقول هات أفتح نت.. هو شو فيه النت؟ أخبارنا احنا، وأخبارنا زي م أنت شايف، موت ونزوح وجوع وحياة بدائية..
بتشغِل نفسك بالواقع اللي هو شاغلك غصب عنك في الحطب والمي والسوق والمستلزمات الخاصة بنظام حياة الحرب، وبصير معك مواقف مدري عنها.. قبل يومين مثلا رايح أشتري مي لأنه فش مي بكل المنطقة من أسبوع، وماشي بأمان الله، عند المفترق شفت خالي، وقفنا شويتين نحكي، وخالي راجل فاضل ومحترم جدا، وملِم بالتفسير وعنده لطائف بيحكيلي اياها من القرآن وفوائد بين الحين والآخر، فقعدنا نحكي، قطعت الحديث وقلتله معلش بنحكي بس أرجع، مشواري يمكن يكون بعيد وبديش أطوّل، يدوب مشينا، فش دقيقة يمكن، انقصف المفترق..! يعني راحت علينا، كان استشهدنا، بس ملناش نصيب، وبتفكّر: معقول ربنا بدوش ايانا؟ لساتنا ذنوب ومش وقت الاصطفاء؟ طب يمكن ربنا بده يستخدمنا.. إن شاء الله ربنا بستخدمنا في نصرة هالدين ونفع الناس..
يبدو طولت بالحكي، والكتابة أخذت مناحي غير اللي بلّشت الكلام عشانها، مش قصة سامحونا، كنت فاتح القناة ودكتب سطرين وهي اللي صار..
تعِب القلبُ من الفقد، ولولا صبر أمدّنا به الله لهلكنا.
كلما فقدتُ شخصًا من أحبّتي رحمهم الله، أستذكر أن الجنة مليئة بالرفاق، والأحباب والأصحاب، والجيران، وأن بها رسولنا عليه السلام، وليس هناك تعب ولا نصَب، ولا نزوح ولا تشرّد، ولا خوف أو جزع أو قلق، فلا مستقبل مجهول ولا حرب عنيفة غامضة، ولا عالم متفرّج صامت على الدماء والمجازر والدمار، ولا مفاوضات كاذبة مُرهِقة، ولا أزيز طائرات ولا قذائف ولا قصف عنيف، ولن تُذكر هناك المجاعة إلا في حديثهم عنّا، وتملأهم الطمأنينة والراحة والسكينة.
اللهمّ صبّرنا على فراقهم، وألحِقنا بهم وأنت راضٍ عنّا.
يا رب، أحبابنا في مخيّم جباليا، انقطعت بهم السبل، وليس لهم إلا أنت، فكُن معهم في ظروفهم الحالكة، وهوّن عليهم ما يُلاقونه من أذى وحصار واحتجاز.
لا نعلم أين صاروا، وماذا حلّ بهم، الشبكات معطّلة، ولا وسيلة بيننا وبينهم إلا الدعاء، فاربط على قلوبهم، وثبّتهم، وارفع عنهم هذا البلاء، فقد أعيَانَا وأتعب أفئدتنا، فكيف بمن هم تحت وطأته!
طوال ساعات الليل لم تتوقف أصوات القصف الجوّي والمدفعي والنسف وإطلاق النار من الآليات والمسيّرات، وشمل ذلك أغلب مناطق الشمال، ولكن بالأكثر مخيم جباليا والمناطق المُحاصرة معه. الشهداء في الشوارع ولا أحد يستطيع الوصول إليهم، وآخرون تحت الأنقاض، واستهداف مستشفى العودة بقذائف، وإطلاق نيران على مستشفى كمال عدوان، والآن محاصرة المستشفى الأندونيسي وإطلاق النار عليه، وهدم السور، والساعات القادمة ستكون أكثر صعوبة، وهكذا تنهار المنظومة الصحية تماما في المنطقة المحاصرة بالتحديد، وباقي المناطق تعمل بأقل الإمكانيّات.
في الخلفية الصوت ليس مثل شدّته في الواقع، نصف دقيقة من إطلاق النيران، بدون صوت القصف والنسف، ولك أن تتخيل اجتماعها وامتدادها لساعات الليل الطويل.
الوضع الآن في مخيم جباليا حرِج جدًّا، والكارثة تفوق الوصف، في هذه اللحظات تحديدًا، أصوات انفجارات مخيّم جباليا في الشمال، تُسمع من المحافظة الوُسطى للقطاع! المخيم ومحيطه يتعرض للقصف الجوّي والمدفعي والتجريف، بجانب الحصار والتطويق والتجويع. إبادة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وسط صمت وخذلان مدوّيان!
كنا نُذهَل من وصول الحرب لليوم ال100 ونقول ربما تنتهي قريبًا، لن نتحمّل أكثر من ذلك، ماذا بقي؟ لقد سحقوا المدينة، وغيّروا ملامحها، وتعب الناس، وفقد الجميعُ أحبابَهم وبيوتهم، وصارت الحياة صعبة جدًّا، ولا توصف، ومررنا بأهوال كأنها القيامة، في منتصف الليل، تُضاء السماء بالقنابل، ويصير لونها برتقاليًّا مع كل قصف، والرعد خفيف على الأذن مقارنة بصوت الانفجارات، والاهتزازات عنيفة كأنها زلازل، تتحرك بك الأرض، ويهوي السقف، وتُظلِم الدنيا..
إن حيَاة الإنسان الطبيعي الجيّدة في غزة، يصحو باكرًا جدًّا كي يقف على طابور الماء الطويل، وينقل قالوناته لمسافات الله أعلم بها، وهذا الحِمل ثقيل جدا حتى على الشباب، فالأجساد مُنهَكة، والطعام المتوفر يكاد يسدّ الجوع، ولا يلبّي حاجة الجسم للغذاء الحقيقي والمعادن والفيتامينات، وبعد ذلك عليه أن يبحث عن حطب، أو يقوم بتكسير الحطب لديه كي يناسب مَوقد النار، ثم عليه أن يبحث عن ماء صالح للشرب، ثمّ طابور الخبز، ولكلّ شخص همومه ومشاكله ومسؤولياته التي يذهب فيها ما تبقى من اليوم، وهذا سرد مُبسَّط دون تخيّل كواليس كل ذلك، مثل المشاكل على طابور الماء أو الخبز وغيره، والقصف حوله، أو نبأ استشهاد قريبه أو صديقه، وربما نجا من الموت بأعجوبة، أو توغّل مفاجئ للاحتلال لمنطقتهم، وهنا أسوأ ما في الحرب، وهو النزوح، وقد تسقط دمعة مؤجلة وأنت تسير في الطرق الوعِرة، وعلى جنب الطريق قبور، بعدما كانت هذه الشوارع عامرة بالحياة وزاخرة بكلّ ألوان البهجة والبساطة.
نحن الآن في اليوم ال380 تقريبا، هل تعي ما أقول؟ أم تقرأ بعينيك فقط؟ أكثر من عام، والموت المتكرر والقصف والدمار والنزوح والجوع والحصار وحياة الطوابير يعيشها المسلمون هنا في غزة، شمالًا وجنوبًا، وهذه الحرب ليست على حِزب بعينه، ولا فصيل، ولا مجموعة من الناس، إنها حرب وجوديّة ودينيّة بحتَة، راح فيها البشر والشجر والحجر، إبادة مُمَنهجة وواضحة، تدمير صُروح علمية ودينية وتاريخية، وقتل أصحاب مهِن، وقامات علميّة، وأدبيّة، وفنيّة، وطُهاة رائعون بأسرارهم، يُباد كُل صاحب فِكر، ومبدأ؛ كي لا تقوم لنا قائمة، فأين أنتَ أخي؟ ألسنا جسدًا واحدًا من أمّة الإسلام؟ هذا عام طويل، البعض مَلّ وسئم، وقد لا تكون هذه الدماء هنا إلا أخبار عابرة في يومه، وقد لا تصادفه حتى ولا يقرأ عنها، أعيذك أن تعتاد، أو تألف، فيقسو قلبك، ويصير الدم عندك كالماء.
غيّبوا الدُّعاة، والمشايخ، والمفكّرين، ورأس مال النهضة بالأمة والشباب، ونحن بأمس ما نكون اليوم لكل صاحب عقل ودين وقلم ومِنبَر خير؛ كي يعي أن معركتنا مستمرة وبحاجة إليه، فأعدّ نفسك علميًّا وشرعيًّا وثقافيًّا كي تنهض بأمتنا، فإن متنا ووارانا الثرى، لا ينتهي الأمر، إيّاك، أنت أمَل الكثيرين، فالزَم ثغرَك ولا تبرَح، فالصراع مع الباطل طويل.
إن شيئًا كثيرًا ما أرغب بقوله: كيف صبرنَا؟ كيفَ احتَملنَا؟ بالله، فقط بالله، بل إن ألوان الحياة وتفاصيلها قاتمة جدًّا، ولا يعزّينا إلا أن الله عادِل، ورحيم، ولن تذهب هذه البلاءات هباءً في ميزان الله، وسيقتصّ لنا اليوم أو غدًا من كل الذين ظلمونا، أو خذلونا، ومن سنة الله في الأرض أن يمحّص الذين آمنوا.
في صدري الكثير، وقد لا أجيد ترتيب العبارات، أو صياغة الكلمات، لكن حسبي أن يصلك الشعور والرسالة التي أقصدها.
أسأل الله أن يثبّتنا ويصبّرنا ويربط على قلوبنا، وأن يستخدمنا ولا يستبدلنا، وألا يقبضنا إلا وهو راضٍ عنا.
نَحن الآن نعيش أسوأ فترة منذ بداية الحرب، الاحتلال أكثر دمويّة وشراسة، قتل بالجُملة، وقصف بالمربعات، ونسف لمناطق كاملة، وتهجير لمساحات تضم مناطق كثيرة وبها زخم السكان الذين رفضوا الذهاب للجنوب، ونَقص في كل شيء، إلا الإيمان بالله والحمدلله.
ضغط قوي جدا وعنيف وممنهج كي ننزح إلى الجنوب، نيابة عن نفسي: لا أريد الذهاب إلى الجنوب، من الشمال إلى السماء فقط، هي أرحَب لنَا.
يقول الشهيد باسل الأعرج رحمه الله: من الصّعب أن تستوعب الألم والفخر فِي آنٍ واحد داخل نفس الشّخص.
وهذا الحاصل معي الآن، هل أفخَر لأنني من غزة - جباليا تحديدًا، ومن الذين منّ الله عليهم بالصبر والثبات بالبقاء في شمال غزة، أم أحزن لآلامي المنبعثة من ذات السبب؟
في هذه اللحظات التي أكتب بها كلماتي هذه، ينتابني شعور مشابه لبدايات أكتوبر الماضي، وهذا بفِعل الأحزمة الناريّة العنيفة، والقذائف المدفعيّة التي لا تتوقف، والنيران من الآليات والطائرات المروحيّة، مع أزيز مستمر للطائرات بدون طيار، وتسارع القذائف تارة، وارتفاع صوت رصاص المروحيّات، واقتراب القذائف مجددا، وسيارات الإسعاف والدفاع المدني، وللأسف كُل هذا يُقرأ ببرود، وكأنه شيء عابر، بينما الحقيقة كما قال الشيخ محمد الأسطل: لو كانت القيامة عبارة عن حزامات نارية، لكانت رعبًا يستحق أن يتعب الإنسان مدة الدنيا ليكون من الذين يأتون آمنين منه يوم القيامة.
بينما يحدث كل هذا، تتساءل: هل نحن الآن أمام نزوح جديد؟ ماذا سنحمل معنا؟ هل هذه لحظاتنا الأخيرة وسنلتقي بكل الذين سبقونا؟ الحرب تبدأ من جديد؟ متى ستنتهي هذه الحرب والظروف المؤلمة والقاسية؟ هل هذه مجرد استهدافات ولن تتوغل الآليات؟ هل سيكون التوغل محدودًا؟ مع العلم أن التوغل المحدود يُجبر كُثر على النزوح، وأن الاستهدافات ينتج عنها شهداء ومصابين ودمار، وللشهيد أحلامه وأحبابه، وللمصاب مسؤوليّاته، وللبيت أمانه، ولكنها حياتنا التي اعتدناها وما اعتدناها، موت متكرر، وآلام كثيرة وجِراح، والله هو المعوّض عن حياتنا وأعمارنا التي تنسلّ من بين أيدينا تحت وطأة هذه الحرب المريرة، ويقطع تساؤلاتك صوت القصف مجددا، وبكاء واستنجاد وصراخ مكلومين الله أعلم بحالهم:"يا عالم، إسعاف.. إسعاف.. يا الله.." وتصلك رائحة البارود والقصف والتدمير، رائحة المصيبة، أو الموت، وانخفاض المروحيّة وصوتها يرتفع، واستمرار القصف المدفعي والجوي! جلبَة في الشارع، حركة نزوح لا تعلم مصدرها، ويختبئون من شظايا قصفٍ قريب مرة أخرى، يبكي الأطفال، يقول الزوج: أين نذهب؟ عادت الحرب من جديد. فترد الزوجة: لا حول ولا قوة إلا بالله..
على كلّ حال: هذه الحيَاة لا أسَف عليها، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
وأنا أشاهد هذه المشاهد بأم عيني، وأكاد لا أصدّقها لشدّة ما خُذِلنا على مدار عام طويل.. صرت أستذكر الشهداء، والنازحين، والمكلومين، وأقول: اللهم اشف صدور قومٍ مؤمنين.. اللهم إن هذه المشاهد كأنها تربيتة على القلوب، رغم كل الأسى والجِراح والشهداء والنزح والموت المتكرر كل يوم ألف مرة..
اللهم عجّل بفرجك ونصرك، كيف تشاء، وبما تشاء، يا رب العالمين..