القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ....) سورة محمد
يقول تعالى ذكره: حاضا عباده المؤمنين على جهاد أعدائه، والنفقة في سبيله، وبذل مهجتهم في قتال أهل الكفر به: قاتلوا أيها المؤمنون أعداء الله وأعداءكم من أهل الكفر، ولا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك قتالهم، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو، إلا ما كان منها لله من عمل في سبيله، وطلب رضاه. فأما ما عدا ذلك فإنما هو لعب ولهو، يضمحلّ فيذهب ويندرس فيَنمحي، أو إثم يبقى على صاحبه عاره وخزيه.
﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ﴾ يقول: وإن تعملوا في هذه الدنيا - التي ما كان فيها مما هو لها فلعب ولهو- فتؤمنوا به وتتقوه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، وهو الذي يبقى لكم منها، ولا يبطُلُ بُطُولَ اللهوِ واللعبِ، ثم يؤتكم ربكم عليه أجوركم، فيعوّضكم منه ما هو خير لكم منه يومَ فقركم وحاجتكم إلى أعمالكم.
إن الله يعذب الذين يعذبون الناس!! *** مر هشامُ بنُ حكيم بن حزام، على أناس من الأنباط [بالشام]، قد أقيموا في الشمس!!
[وفي رواية: وجد رجلا وهو على حمص يشمس ناسا من النبط].
فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا، في الجزية!!
فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا).
[رواه مسلم]. *** هذا غضب الصحابي، رضوان الله عليه، وصدعه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، في حق الظالمين، الذين يعذبون الناس. وإنما كانت القصة: قصة قوم من الكفار، الذميين؛ لم يدفعوا الجزية، الواجبة عليهم في الأصل. لكن الحاكم الظالم: شق عليهم، وعذبهم. *** فكيف لو أدرك حكيم سجون الذرية النجسة، وأفعالهم بعباد الله في البلاد المباركة، أرض الشام؟؟
ألا سحقا للقوم الظالمين، وذرية الملاعين، وأخزاهم الله، وقد فعل. وردهم إلى سجين، خالدين، مخلدين.
وبالرغم من هذا الضلال والفساد والإجرام الواضح المتواتر= كانت عمائم السوء تلتمس العذر لبشار الأسد، وتنافحُ عنه بلغة المصالح والمفاسد، وتسوّدُ صحائفها بتأصيلات شرعية لقتل ما تبقى من الفِطَر السوية التي تستقبح الظلم والفجور، ثم تراهم بعد هروبه وزوال سلطانه قد غيّروا مقالَتهم، وانقلبت تأصيلاتهم.
لذلك، فاعلم أن بعض الفتاوى والتأصيلات قد تتغير وتتبدل مع تغيّر موازين القوى.
لا أقول لك ذلك لتنشغل بتنزيل الأحكام على آحاد الناس، فرب معذور مضطر ينجو، ومستكثر من الحط على الناس يهلك.
ولكن نصيحتي لنفسي ولغيري: استمسك بمُحكمات الوحي، وتضرع لطلب الهداية والثبات من مولاك، وأصلح قدر طاقتك، ولا تتبع سبيل المفسدين، ولا تكونن ظهيرا للمجرمين، واحذر من التلوّن في دين الله، ولا تشتر بآياته ثمنا قليلا، فما عند الناس ينفد وما عند الله باق.
يظن بعض أصحاب الآرائك الفكرية أن تجارِب إصلاح الواقع لابد أن تكون نهائية، ومتكاملة وخالية من الأخطاء، وآمنة.
وهل تجري أنهار الفرح إلا بتراكم قطرات الدماء!
يعيش بعضهم في عالم تجريدي محدود العوامل، ينتظر حقًّا نقيًّا صافيا، يبعثه الله ليُقيمَ له تلك اليوتوبيا التي يحلم بها، ولن يفرح أحدُهم بغرق فرعون لاحتمال مجيء فرعون آخر، أو دخولنا في التيه كما حدث لبني إسرائيل، وقد يتساءل أين النصر في عاشوراء؟
أما العالم الذي نعيشه، فهو متداخل ومتشابك، يختلط فيه الخير بالشر، ويسعى العقلاء لتقليل المفاسد قدر استطاعتهم، يبذلون ما يستطيعون من جهد، ويرجون رحمة الله، ويثقون في تدبيره، يفرحون بالانتصارات الجزئية، ويعلمون أن ضربة النهاية ليست واحدة، وإنما هي ضربات قد يُخطئ بعضها الهدف، يحزنون لآلام أمّتهم، ولا ييأسون لتأخر النصر، يسعون في هداية الناس وإنقاذهم من الظلم، يتفهمون مراتب العداوات، ويعلمون أن المكر يحيط بهم، وأن الأمة في حالة ضعف وهوان ووَهن، يؤمنون بسنّة التدافع، ويفقهون قيمة الدنيا، ويصلحون أخطاءهم محاولين التعلم من أخطاء العمل؛ فالقاعد لا يُخطئ.
اللهم استعملنا فيما تحب وترضى، ونعوذ بك من قلب ميت، وصدر مُعتم. اللهم فقهنا في ديننا، وأرنا سبلَ رضاك، وبيّن لنا سبلَ المجرمين، ونعوذ بك أن نكون ظهيرا للمفسدين، واجعلنا مع الصادقين.
من أعظم ما قدّمته معركة طوفان الأقصى= كسر الهيبة وإحياء الأمل، وهذا هو أشد ما يخشاه العدو؛ فهو بداية الهزيمة ولو تأخرت.
انظر إلى فرعون ماذا فعل عندما بدأ الأمل يدب في قلوب بني إسرائيل بعد مجيء موسى عليه السلام: (فَلَمَّا جَاۤءَهُم بِٱلۡحَقِّ مِنۡ عِندِنَا قَالُوا۟ ٱقۡتُلُوۤا۟ أَبۡنَاۤءَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ وَٱسۡتَحۡیُوا۟ نِسَاۤءَهُمۡۚ وَمَا كَیۡدُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ إِلَّا فِی ضَلَـٰلࣲ﴾
يقول الزمخشري مُوضحا ما فعله فرعون:
فإن قلت: أما كان قتل الأبناء واستحياء النساء من قبل خيفة أن يولد المولود الذي أنذرته الكهنة بظهوره وزوال ملكه على يده؟ قلت: قد كان ذلك القتل حينئذ، وهذا قتل آخر.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله قالُوا اقْتُلُوا أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولا، يريد أن هذا قتل غير القتل الأول، (فِي ضَلالٍ) في ضياع وذهاب، باطلا لم يجد عليهم،
يعنى. أنهم باشروا قتلهم أولا فما أغنى عنهم، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه، فما يغنى عنهم هذا القتل الثاني، وكان فرعون قد كف عن قتل الولدان، فلما بعث موسى وأحس بأنه قد وقع: أعاده عليهم غيظا وحنقا، وظنا منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى، وما علم أنّ كيده ضائع في الكرتين جميعا.
قوله: ﴿نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون﴾ أي: نذكر لك الأمر على ما كان عليه، كأنك تشاهد وكأنك حاضر.
ثم قال: ﴿إن فرعون علا في الأرض﴾ أي: تكبر وتجبر وطغى. ﴿وجعل أهلها شيعا﴾ أي: أصنافا، قد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته.
وقوله: ﴿يستضعف طائفة منهم﴾ يعني: بني إسرائيل. وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل زمانهم. هذا وقد سُلّط عليهم هذا الملك الجبار العنيد يستعملهم في أخس الأعمال، ويكدهم ليلا ونهارا في أشغاله وأشغال رعيته، ويقتل مع هذا أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إهانة لهم واحتقارا، وخوفا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته من أن يوجد منهم غلام، يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه.
فاحترز فرعون من ذلك، وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل، ولن ينفع حذر من قدر؛ لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، ولكل أجل كتاب؛ ولهذا قال: ﴿ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونُمكّن لهم في الأرض ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون﴾، وقد فعل تعالى ذلك بهم.
أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى، فما نفعه ذلك مع قدر الملك العظيم الذي لا يُخَالَف أمرُه القدري، بل نفَذ حكمُه وجرى قلمه في القدم بأن يكون إهلاك فرعون على يديه، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده، وقتلت بسببه ألوفا من الولدان إنما منشؤه ومرباه على فراشك، وفي دارك، وغذاؤه من طعامك، وأنت تربيه وتتفدّاه، وحتفُك وهلاكُك وهلاكُ جنودِك على يديه، لتعلم أن رب السموات العلا هو القادر الغالب العظيم، العزيز القوي الشديد المحال، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
يا الله! تدخل إلى القرآن بعزيمة ضعيفة وعقل مشتّت وقلب خائف ونفس مضطربة، فتخرج وقد انتعشت الروح وأبصر العقل وأخبت القلب واطمأنت النفس. يا الله. أيّ طاقةٍ هذه! أي نورٍ هذا! حقّا: الرحمن، علّم القرآن.
استمع بقلبك لهذا المقطع، عايش معنى (وربك الغني)، تأمل في قدرته المطلقه سبحانه وتعالى، ثم اجهر بقولك (اعملوا على مكانتكم، إني عامل)، كن على يقين بأن العاقبة للمتقين.
من لوازم العلمانية= إزاحة تقييم الواقع وإعادة ضبطه من خلال الوحي المُقدّس، فتُخترع معايير أرضية لسد هذه الفجوة التي كان ينبغي أن يغطيها الوحي، بل وتُنتزع المصطلحات الشرعية من واقعها الحقيقي ويُحرّف معناها لتوافق الأهواء الأرضية، وتفقد علاقتها بالسماء.
فالعلمانية تصارع لتُهَيمن على واقع الناس تقييما وتحاكما، وتزيح وتحاصر معايير السماء الربانية لتكون منزوعة الأثر عن حياة الناس؛ فتظل حبيسة صدورهم.
ومن عَلمنة العلم الشرعي= تجريده من النية الشريفة والعمل والخُلُق والأثر الواقعي، وتحويله إلى معلومات ذهنية ونصوص باردة يستوي فيها المسلم والمُستشرق، وهل هذا إلا شعبة من الأُمية المذمومة والأماني الباطلة!
ومن علمنة الفكر= تقييم الواقع من حولنا بمعايير مادية منقطعة الصلة عن السماء، لا تبصر عالم الغيب، تخلد إلى الأرض ولا ترجو الفردوس الأعلى، لا تفهم معاني التضحية والجهاد، ترى الشهادةَ هزيمةً، والتوكلَ على الله غرورا.
الدعوة إلى دين الله شرفٌ عظيم، يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله﴾ أَيْ: دَعَا عِبَادَ الله إِلَيْهِ، ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أَيْ: وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُهْتَدٍ بِمَا يَقُولُهُ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَأْتُونَهُ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَأْتُونَهُ، بَلْ يَأْتَمِرُ بِالْخَيْرِ وَيَتْرُكُ الشَّرَّ، وَيَدْعُو الْخَلْقَ إِلَى الْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَهَذِهِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ دَعَا إِلَى خَيْرٍ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُهْتَدٍ (انتهى).
فلا ينبغي أن يُدنّس هذا الشرف بجعل الدعوة إلى الله وسيلة لإرضاء السلطان أو تحصيل الأموال أو صرف وجوه الناس إليه ومنعهم عن غيره من أهل الفضل.
فمن صفّى صُفّي له، ومن خلّط ومزَج= وَجَد أثر ذلك في الدنيا والآخرة.
واعلم أن أهل المال والسلطة يعلمون شرف الدعوة وأثرها في قلوب الناس، فيُصيبون من الدعاة ويستغلون أثر دعوتهم؛ لتنفَق سلعتهم ويبقى سلطانهم، فيتحول الداعية -بشهرته التي اكتسبها من شرف الدعوة- إلى بوق لأهل السلطة أو مصدر دخل لأهل المال، عصمنا الله من الفتن.
ولذلك حذّر الوحي من كثرة خُلطة أهل الترف؛ فإنهم إما أن يحرقوا ثيابك التي أُمرت بتطهيرها، أو تجد منهم ريحا خبيثة تعمي بصرك عن رؤية حقائق الوحي؛ فتنكر ما كنتَ تعرف، وتلك هي الفتنة.