استبطأ النبي ﷺ جبريل عليه السلام مرة في نزوله إليه فقال له: " لو تأتينا أكثر مما تأتينا " -تشوقا إليه، وتوحشا لفراقه، وليطمئن قلبه بنزوله- فأنزل الله تعالى على لسان جبريل: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ أي: ليس لنا من الأمر شيء، إن أمرنا، ابتدرنا أمره، ولم نعص له أمرا، فنحن عبيد مأمورون، ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ أي: له الأمور الماضية والمستقبلة والحاضرة، في الزمان والمكان،
فإذا تبين أن الأمر كله لله، وأننا عبيد مدبرون، فيبقى الأمر دائرا بين: " هل تقتضيه الحكمة الإلهية فينفذه؟ أم لا تقتضيه فيؤخره " ؟
ولهذا قال: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ أي: لم يكن لينساك ويهملك، كما قال تعالى: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ بل لم يزل معتنيا بأمورك، مجريا لك على أحسن عوائده الجميلة، وتدابيره الجميلة. أي: فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد، فلا يحزنك ذلك ولا يهمك، واعلم أن الله هو الذي أراد ذلك، لما له من الحكمة فيه.
"الغرض الاستحثاث على التقوى بأي صيغة كانت ... فأما الاقتصار على ذكر التحذير من الاغترار بالدنيا وزخارفها، فلست أراه كافيًا، من جهة أنها مما يتواصى به المعطِّلة المنكرون للمعاد".
فائدة ، في "الخطبة" !! *** " ... كره للخطباء : أن يقتصروا في خطب الجمع والأعياد ، على التذكير بالموت ، ونحوه من الأمور التي لا يختص المؤمنون بها . وأحبوا : أن يكون التذكير بما في اليوم الآخر ، مما أخبرت به الرسل . ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يقرأ في العَدد من خطبه : ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) ، لتضمنها ذلك ... " اهـ . ابن تيمية "جامع المسائل" (8/117) . *** وحاصل ذلك:
أن خطبة الجمعة ليست "مناسبة" اجتماعية، ولا هي "بروتوكول إنساني" ؛ بل هي : [شعيرة] محضة ، لها أحكامها "العبادية" . *** نعم؛ فكيف تكون "الكراهة" و"الشناعة" ، لو كانت خطبة الجمعة عن : ( المبادرات ) .. ( الإدارة ) .. ( السلام ) ، و (الاحترام) !! رحمتك يا ربي ...
أشد العقبات في سيرك نفسك، تلك الوثابة بشِرَّة الانتقام إذا جُرِحت، المختالة إذا ظفرت، المعجبة إذا أطاعت، المستخفة أو القانطة إذا ما عصت! ولا نجاة من شرها إلا باستغاثة الفقير بربه الذي يعلم السر وأخفى! ومن علم نفسه لم يطمئن إليها، وعصاها في طاعة ربه، ورحمة الخلق، لاسيما من سبق منه الأذى والظلم!
انظر إلى ما تتابع السلف على نسبته لسيدنا يوسف عليه السلام من قوله تعالى: "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إنَّ ربي غفور رحيم".
يقول الإمام أبو جعفر ابن جرير رحمه الله في إشارة مباركة:
يقول يوسف صلوات الله عليه : وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي من الخطأ والزلل فأزكيَها . إنّ النّفْسَ لأمّارَةٌ بالسّوءِ يقول : إن النفوس نفوس العباد تأمرهم بما تهواه وإن كان هواها في غير ما فيه رضا الله إلاّ ما رَحِمَ رَبّي يقول : إلا أن يرحم ربي من شاء من خلقه ، فينجيه من اتباع هواها وطاعته فيما تأمره به من السوء . إنّ رَبّي غَفُورٌ رَحِيمٌ . انتهى كلامه! فهذا بيان من الكريم ابن الكريم ابن الكريم عليهم السلام تواضعا لربه وذلةً له، لا اختيالا عند ظهور براءته، ولا استطالة على من أوبقه ذنبه! بل قول فقير إلى ربه مقر ٍّ بفضل ربه عليه وإحسانه إليه!
يقول تعالى ذكره: وما أعطيتم أيها الناس من شيء من الأموال والأولاد، فإنما هو متاع تتمتعون به في هذه الحياة الدنيا، وهو من زينتها التي يتزين به فيها، لا يغني عنكم عند الله شيئا، ولا ينفعكم شيء منه في معادكم، وما عند الله لأهل طاعته وولايته خير مما أوتيتموه أنتم في هذه الدنيا من متاعها وزينتها ﴿وأبقى﴾ ، يقول: وأبقى لأهله؛ لأنه دائم لا نفاد له.
﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ : أفلا عقول لكم أيها القوم تتدبرون بها فتعرفون بها الخير من الشرّ، وتختارون لأنفسكم خير المنزلتين على شرّهما، وتؤثرون الدائم الذي لا نفاد له من النعيم، على الفاني الذي لا بقاء له.
يقول تعالى ذكره: أفمن وعدناه من خلقنا على طاعته إيانا الجنة، فآمن بما وعدناه وصدّق وأطاعنا، فاستحقّ بطاعته إيانا أن ننجز له ما وعدناه، فهو لاق ما وعد، وصائر إليه كمن متَّعناه في الدنيا متاعها، فتمتع به، ونسي العمل بما وعدنا أهل الطاعة، وترك طلبه، وآثر لذّة عاجلة على آجلة، ثم هو يوم القيامة إذا ورد على الله من المحضرين، يعني من المُشْهدينَ عذاب الله، وأليم عقابه.
...عن قتاده، قوله: ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ﴾ قال: هو المؤمن سمع كتاب الله فصدّق به وآمن بما وعد الله فيه ﴿كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ هو هذا الكافر ليس والله كالمؤمن ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ : أي في عذاب الله.
وأنت تقرأ الآيات لا أريدك أن تتعامل مع السورة بطريقة؛ البحث عنموضوع السورة، وجماليات السورة.. ولكن قبل ذلك أريدك أن تبصر الرحلة التي أخذتك إليها السورة؛ ما الذي غيرته فيك؟
فهذه السور آيات وعلامات تقودك لتغيير وجهتك للوجهة الحقيقية، لتعيش في عالم مطرد متناسق مع عالم الغيب فلا تحس بالتناقضات..
د. أحمد عَبدالمُنعـم | منارات الدين |اقتباسات بتصرف
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ لَا یَرۡجُونَ لِقَاۤءَنَا وَرَضُوا۟ بِٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَٱطۡمَأَنُّوا۟ بِهَا وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَنۡ ءَایَـٰتِنَا غَـٰفِلُونَ﴾ [يونس ٧] هناك من صنع لنفسه عالمه الخاص؛ فجعل عالم الشهادة هو عالمه الأول والأخير، وقطع صلته بعالم الغيب، وصنع لنفسه العلامات والإشارات والمنارات الخاصة به، فمن رحمة الله بهذا العبد أن يزلزله بالآيات القدرية بعدما أعرض عن الآيات الشرعية؛ فتأتيه الأقدار من موت الفجأة، من مرض لا علاج له، من حرب كما يحدث في الطوفان اليوم..
فهذا الطوفان بأحداثه قد أحدث للناس صدمات وجعلتهم يعيدون التفكير؛ ما هذا العالم الذي نعيش فيه؟ عالم لا يقدم أي تفسيرات لما يحدث..
فشخص يعيش في عالم علاماته ومناراته التي صنعها لنفسه هي؛ الأمم المتحدة، والسلام الدولي، عالم خالٍ من العداوة، خالٍ من قضية الولاء والبراء، قائم على أن الدنيا رفاهية وفقط.. فشخص وطن نفسه على هذه المعاني لن يفهم معنى الابتلاءات قط.
فهذا عندما يأتيه زلزال أو بركان أو رياح عاتية أو عواصف أو حروب؛ تجعله يُفيق، تجعله يُدرك أنه كان يعيش في أوهام، وأن المعالم والمنارات التي أنشأها لنفسه لا تفسر له شيئًا مما يحدث، فهو إما أن يُلحد، وإما أن ينتحر، وإما أن يبدأ في البحث عن معالم ومنارات جديدة تُفسر له هذه التناقضات التي يعيشها..
والقرآن الكريم هو المعالم والمنارات التي أنزلها الله تبارك وتعالى، هو الآيات التي تدلك على الطريق، وتبصِّرك بحقائق الأمور ..
د. أحمد عَبدالمُنعـم | منارات الدين |اقتباسات بتصرف
فالعلم النافع هو ما باشر القلوب فأوجب لها السكينة والخشية، والإخباب لله والتواضع والانكسار له، وإذا لم يباشر القلوب ذلك من العلم، وإنما كان على اللسان، فهو حجة الله على ابن آدم، تقوم على صاحبه وغيره، كما قال ابن مسعود: «إن أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع صاحبه». خرجه مسلم .
وأصل الخشوع الحاصل في القلب، إنما هو من معرفة الله، ومعرفة عظمته وجلاله وكماله، فمن كان بالله أعرف فهو له أخشع.
وتتفاوت القلوب في الخشوع بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له، وبحسب تفاوت مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع، فمن خاشع لقوة مطالعته لقرب الله من عبده، واطلاعه على سره وضميره المقتضي الاستحياء من الله تعالى ومراقبته في الحركات والسكنات، ومن خاشع لمطالعته لجلال الله وعظمته وكبريائه، المقتضي لهيبته وإجلاله، ومن خاشع لمطالعته لكماله وجماله المقتضي للاستغراق في محبته، والشوق إلى لقائه ورؤيته، ومن خاشع لمطالعة شدة بطشه وانتقامه، وعقابه المقتضي للخوف منه،
وهو جابر القلوب المنكسرة لأجله، فهو يتقرب من القلوب الخاشعة له كما يتقرب ممن هو قائم يناجيه في الصلاة وممن يعفر له وجهه في التراب بالسجود، وكما يتقرب من وفده وزوار بيته الوافدين بين يديه، المتضرعين إليه في الوقف بعرفة، ويدنو ويباهي بهم الملائكة وكما يتقرب من عباده الداعين له، السائلين له، المستغفرين من ذنوبهم بالأسحار، ويجيب دعاءهم، ويعطيهم سؤلهم، ولا جبر لانكسار العبد أعظم من القرب والإجابة.
وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتابه «الزهد» بإسناده عن عمران القصير قال: «قال موسى بن عمران: أي رب، أين أبغيك؟ قال: ابغني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، إني أدنو منهم كل يوم باعا، ولولا ذلك لانهدموا».
قال جعفر: قلت لمالك بن دينار: كيف المنكسرة قلوبهم؟ فقال: سألت الذي قرأ في الكتب فقال: سألت الذي سأل عبد الله بن سلام فقال: سألت عبد الله بن سلام عن المنكسرة قلوبهم، ما يعنى؟ قال: المنكسرة قلوبهم بحب الله عن حب غيره.
وقد جاء في السنة الصحيحة ما يشهد بقرب الله من القلب المنكسر ببلائه الصابر على قضائه أو الراضي بذلك كما في»صحيح مسلم« عن أبي هريرة عن النبي ﷺ:»يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده«.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا من بني إسرائيل= "يؤمنون بالله والنبي"، يقول: يصدِّقون الله ويقرُّون به ويوحِّدونه، ويصدقون نبيَّه محمدًا ﷺ بأنه لله نبي مبعوث، ورسول مرسل="وما أنزل إليه"، يقول: ويقرُّون بما أنزل إلى محمد ﷺ من عند الله من آي الفرقان= "ما اتخذوهم أولياء"، يقول: ما اتخذوهم أصحابًا وأنصارًا من دون المؤمنين="ولكن كثيرًا منهم فاسقون"، يقول: ولكن كثيرًا منهم أهل خروج عن طاعة الله إلى معصيته، وأهلُ استحلال لما حرَّم الله عليهم من القول والفعل.
وعن مجاهد قوله:"ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء"، قال: المنافقون.
﴿ويتخذ منكم شهداء﴾ وهذا أيضا من بعض الحكم، لأن الشهادة عند الله من أرفع المنازل، ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين، أن قيَّض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس، لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم،
﴿والله لا يحب الظالمين﴾ الذين ظلموا أنفسهم، وتقاعدوا عن القتال في سبيله، وكأن في هذا تعريضا بذم المنافقين، وأنهم مبغضون لله، ولهذا ثبطهم عن القتال في سبيله. (السعدي)