لعل من حسنات المنطق الرمزي الحديث أن البراهين التي تُصاغ من طريقه تخلو من الإجمال، الذي يكثر في المقابل في البراهين الفلسفية التي يُعبر عنها باللغات الطبيعية، وليس الحمل في ذلك على اللغة الطبيعية نفسها؛ وإنما لكثرة الاصطلاحات الوضعية بين الفلاسفة. فمن ميزات التعبير الرمزي، أنك تُعَرِّف ما تقصد بكل رمز أولا، فلن يقع الاجمال بين ما تقصده ووضعته من المعاني للمصطلحات، وبين ما هو متبادر للذهن من المعاني في اللغة الطبيعية، فلن تقع في مغالطات الالتباس Equivocation fallacy (أي أن تستخدم نفس اللفظ بمعنيين مختلفين في نفس العبارة)، كما هو كثير مستفيض في دلائل المتكلمين مثل دليل التركيب وغيره؛ وهو ما أكثر الشيخ تقي الدين في بيانه عند تقبه لدلائلهم، فلم يترك لفظا مجملا إلا واستفصل عن معناه ثم حكم عليه، مثل "الجسم"، و"الحيز"، و"العرض"، و"التغير" ونحوه.
"وكذلك المُحدَث ليس هو في كل موضع بمعنى مخلوق، فإن أنكروا ذلك فليقولوا في قول الله: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا} إنه يخلق، وكذلك قوله: {لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا} أي: يحدث لهم القرآن ذكرا. والمعنى: يجدد عندهم ما لم يكن، وكذلك قوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} أي: ذكر حدَثَ عندهم لم يكن قبل ذلك." ابن قتيبة (276 هـ) . قلت: وهذا نص نفيس لإمام جمع إلى التقدمِ والتسننِ الإمامةَ في اللغة واللسان العربي، وقد وافق ما ذكره البخاري وفهمه أقدم شراحه من أن "حدث الله لا يشبه حدث المخلوقين"، وأنه لا يفيد سوى الجِدة والكون بعد عدم، لا الخلق والمخلوقية. وهذا معترفٌ به عند جمهور الطوائف على أية حال، بإثباتهم تعلقاتٍ (حادثةً) (غير مخلوقة)، مما يتضمن إثباتَ فرقٍ لغةً بين الحادث والمخلوق، وإنما النزاع عقليٌ بعد ذلك في: هل مصداق الوصفين واحد إن كان الموصوف وجوديا؟ وإن كان الاتحاد غير ضروري، فدون إثباته بالنظر خرط القتاد، بل النظر يوجبه لوجوب الانتهاء إلى فِعلٍ، حَدَثٍ، خَلقٍ، تكوينٍ، ليس هو المكون، وليس مخلوقا بفعلِ خلقٍ قبله وإلا فتسلسلٌ ممتنع. وبذا استدل من بنى من المتقدمين على أن قوله تعالى (كن) -الجديد لكونه فعلا مظروفا لظرف (إذا) ومعلقا بالإرادة- غير مخلوق، وإنما به يكون المخلوق، وإلا لزم التسلسل الممتنع إن كان مخلوقا، وإن كان قديما ولا جديد إلا تعلقٌ عدمٌ فيلزم الترجيح بلا مرجح أو التراخي عن علة تامة أو تأثير العدم، مما يمتنع بالضرورة قبل النظر، دع مخالفة ظواهر النصوص، فالأخير لا تحمر له أنوف المؤولة بالنظر المولَّد.
إن من الحيل النفسية، التي يستخدمها حذاق الناس في الإقناع، أن تجعل غيرك يفعل ما تريد، وهو يحسبه من بنات أفكاره. ولهذا الأسلوب أنماط كثيرة تتكرر في باب السياسة، والتسويق، بل وحتى في نشر الأجندات. وسأذكر لهذا عدة صور، قد تبدو لكم مألوفة:
- تكرار التعرض mere exposure effect: على سبيل المثال، سماع مدح أشخاص مختلفين لمطعم (أ)، يجعلك تميل أكثر إلى تجربته. وهذا في الأصل منطق صحيح: مرجعه أن اجتماع كلمتهم يمنع التواطؤ على الكذب، وكثرتهم تمنع تفرد أذواقهم، فلا يبقى إلا أن العلة هي جودة المنتج. ولكن هذا المنطق لا يصح إعماله في مواقع التواصل، فإن ما يظهر لك قد يكون محض حملة تسويقية متعمدة أصلا. وقد يُستغل هذا الأسلوب في نشر الأجندات أيضا، فإن الانسان قد يكون جازما بحكم (أ)، ولكنه إذا رأى كثرة من يخالفه ربما شك في عقله وحكمه (فيما يسمونه في علم النفس البحث عن Social Proof)، فكيف لو كان يعظم من يخالفه أصلا؟ وهذا ما يحصل عندما يتكرر مع المشاهد للأفلام والمسلسلات، استجازة الزنا والفواحش ونحوه، وكما قيل: (كثرة المِساس تُذهب الإحساس). ولهذا حرم الله علينا مجالسة من يكفر بالله ورسله، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ أصدقاء السوء.
Zajonc, R. B. (1968). Attitudinal effects of mere exposure. Journal of personality and social psychology
- الأسلوب العكسي Reverse Psychology: وهذا نافع في تربية الأبناء، فإنك لو قلت لابنك: اقرأ ثلاثين صفحة من هذا الكتاب، لما أقنعته بذلك؛ بخلاف لو قلت له: إن أخاك قرأ ضعف ذلك، فهل تعترف بأنك خاسر أمامه؟ فهذا يحفز فيه حب المنافسة.
- تأثير الهالة Halo Effect: وهو استخدام شخصيات مشهورة أو مؤثرة لربط سمات إيجابية بفكرة أو منتج. وهذا رغم ظهور فساده عقلا، إلا أنه ينطلي على ما لا يحصيه إلا الله، حتى في الأمور التافهة! فقد تجد من يقتنع بمشاهدة (مسلسل) لأجل أن لاعب كرة قدم مشهور أعجبه، مع انه لا يخفى أن لا علاقة بين براعة اللاعب في كرة القدم وكون ذوقه السينمائي جيد. وهذا في التفاهات، فكيف بنشر الأجندات؟
- التلاعب العاطفي Emotional Manipulation: وله صور كثيرة جدا، وأكثر من يقع فيه النساء. مثاله: لو أردت من امرأة أن تتوقف من الكلام معك مثلا، عوضا عن طلب ذلك منها (وهذا لا ينجح دائما)، قد تربط الكلام بينكم بشعور لا تحبه كأن تجعلها تشعر بالاحراج، فتظن أن الامتناع عن الكلام كان فكرتها.
- الندرة Scarcity: وهذا باختصار هو أسلوب "كذا قبل الحذف"، أو "كذا قبل انتهاء الوقت"، بأن تجعل لما تقدمه وقتا أو عددا محدودا، وهو الأسلوب التي تستخدمه الشركات الرأسمالية في التخفيضات، ويجعل الدهماء يشعرون أنهم لو لم يشتروا العرض لأضاعوا فرصة ربما لن تعود، مع أن التخفيض قد لا يكون حقيقيا أصلا.
Cialdini, R. B. (2003). Influence
- المعاملة بالمثل Reciprocity Norm: وهذه ليس فيها حيلة، وإنما من طرق الاقناع الجيدة، وهي أن تقدم لمن تريد منه شيئا، معروفا قبل الطلب، فيشعر بنوع من الاحراج في رد طلبك اللاحق وإن كان الطلب أكبر من الهدية. وهذا في الجملة نافع في العلاقات الزوجية، وأثر القيام بمعروف مع أحدهم في قبول اقتراحاتك اللاحقة، مبحوث في Ben Franklin effect أيضا. Cialdini, R. B. (2003)
بل من طرق العلاج النفسي ما تستخدم هذه الحيل، فإن من طرق العلاج النفسي المعروفة: العلاج بطرح الأسئلة؟ وزرع الأفكار بطرح أسئلة نقدية على خلاف الفكرة المُرادة زرعها أسلوب يتكرر، وله فعالية كبيرة (The Socratic Method).
وكلما كانت صياغة هذه الحيل أذكى، كان انطلائها على الأذكياء أمكن؛ ولا يسلم منها إلا من كان صاحب نظر حاذق، وتفكير ناقد، معتصما بالوحي.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فهذا جمع لما وقفت عليه مما صح من الأخبار المرفوعة والموقوفة والمقطوعة في صفة النار، والغرض جمع معظم الأخبار لا الاستقصاء، فإن ذلك يقتضي إفراد مصنف.
وفي هذا فائدتان: الأولى بلوغ الخوف المطلوب شرعا من عذاب الله، وقد أرعبتني الأخبار حقا وأنا أجمعها، ولكن الأمر كما قال سفيان بن عيينة: «خلق الله النار رحمة يخوِّف بها عباده لينتهوا»، فاللهم أجرنا من عذاب النار. والثاني: شفاء لصدور المؤمنين لعلمهم ما سينال الكفار والمنافقين، والبغاة على المسلمين.