روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «فَكَأَنَّكُمْ بَالسَّاعَةِ تَحْدُوكُمْ حَدْوَ الزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ».¹ الشول جمع شائلة: وهي الناقة التي أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فجفّ لبنها²، وتسمّى الشول أي ذات شول لأنّه لم يبق في ضرعها إلا شول من لبن أي بقيّة³، قال ابن ميثم البحراني (رحمه الله): «وإنّما خصّ الشول من النوق لخلوّها من العثار فيكون سوقها بعنف وأسرع»⁴، وهذا بخلاف ذات الحمل أو اللّبن، فتكون استعارة بديعة، كأنّ المراد منها تشبيه حدو الساعة للإنسان بسوق الناقة الشائلة سوقًا حثيثًا لا إهمال فيه، قال جلّت آياته: «هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتةً وهم لا يشعرون»، وروي عنه (عليه السلام): «الموت طالب حثيث»⁵، يحثّ الإنسان على الغاية، ويصيح به إلى النهاية. فما أبلغها حكمةً وأصدقها مقالًا!
عجبًا، إذا كانت المسألة متعارضة الأخبار عنده، لم أجاب أوّلًا بقياس الأولوية بداهةً ولم يعلّق النتيجة التي ذكرها على ثبوت الرواية؟! ذلك لأنّ الحادثة مشهورة ذائعة مستحكمة في نفسه. أما نحن فلا يعنينا توقّف النقيب، ولا يهمّنا عدم رواية المعتزلي عنه، فالمصيبة مذكورة في عيون المصادر لدى الفريقين، والنازلة دهماء، والخصومة يوم الساعة بين يدي الله العزيز الحكيم.
لو كان رسول الله حيًّا لأباح دم من روّع فاطمة! قال ابن أبي الحديد بعد أن نقل قصّة ترويع هبّار بن الأسود لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله حتى طرحت ما في بطنها: «قلت: وهذا الخبر أيضًا قرأته على النقيب أبي جعفر رحمه الله فقال إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله أباح دم هبّار بن الأسود لأنّه روّع زينب فألقت ذا بطنها، فظهر الحال أنه لو كان حيًّا لأباح دم من روّع فاطمة حتى ألقت ذا بطنها. فقلت: أروي عنك ما يقوله قومٌ إنّ فاطمة رُوّعت فألقت المحسن، فقال: لا تروه عني و لا ترو عنّي بطلانه، فإنّي متوقّف في هذا الموضع لتعارض الأخبار عندي فيه».
«بصق في الصحيفة ومحاها»! قال السيّد المرتضىرضوان الله عليه في كتاب الشافي في الإمامة: «روى إبراهيم بن محمد الثقفي عن إبراهيم بن ميمون قال حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب عن أبيه عن جدّه عن جدّ أبيه عليّ عليهم السلام، قال: جاءت فاطمة عليها السلام إلى أبي بكر وقالت: إنّ أبي أعطاني فدكًا وعليٌّ يشهد لي وأمّ أيمن، قال: ما كنت لتقولي إلا الحقّ نعم قد أعطيتك إياها، ودعا بصحيفة من أدم فكتب لها فيها؛ فخرجت فلقيت عمر، فقال: من أين جئت يا فاطمة قالت من عند أبي بكر، أخبرته أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أعطاني فدك وعليٌّ يشهد وأمّ أيمن فأعطانيها وكتبها لي، فأخذ عمر منها الكتاب، ثم رجع إلى أبي بكر فقال: أعطيت فاطمة فدك وكتبت بها لها؟ قال: نعم، قال عمر: علي يجرّ إلى نفسه وأم أيمنّ امرأة، وبصق في الصحيفة ومحاها».
الشافي في الإمامة [ج٤، ص٩٧- ٩٨]، ورويت الحادثة باختلاف يسير في تفسير القميّ [ج٢ ص١٥٦]، والاحتجاج للطبرسيّ [ج١، ص١٢٢]، والسيرة الحلبية [ج٣، ص٥١٢].
نهج البلاغة: وقال عليه السلام لعمّار بن ياسر رحمه الله تعالى وقد سمعه يُراجع المغيرة بن شعبة كلامًا: «دعه يا عمّار، فإنّه لم يأخذ من الدين إلا ما قاربه من الدنيا، وعلى عمد لبّس على نفسه، ليجعل الشبهات عاذرًا لسقطاته».
أمَره عليه السلام بالإعراض عنه لمّا علم منه آفتين خطيرتين، هما الاستئكال بالدين، وتعمّد الإغماض عن الحقّ. فلينظر العاقل إليهما بعين الاعتبار. نسأل الله العافية والهداية.
قال الجاحظ في البيان والتبيين: «وقد جمع محمّد بن عليّ بن الحسين [صلوات الله عليهم] شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين، فقال: «صلاح شأن جميع التعايش والتعاشر ملء مكيالٍ ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل». فلم يجعل لغير الفطنة نصيبًا من الخير، ولا حظًّا في الصلاح؛ لأن الإنسان لا يتغافل إلا عن شيء قد فطن له وعرفه».
في كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: عن أستاذه أبي جعفر الإسكافي [وهو من متكلّمي المعتزلة وأئمّتهم] قال: «وقد صحّ أنّ بني أمية منعوا من إظهار فضائل عليّ عليه السلام، وعاقبوا ذلك الراوي له، حتى إنّ الرجل إذا روى عنه حديثًا لا يتعلّق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه؛ فيقول:عن أبي زينب. وروى عطاء عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد، قال: ودِدْت أن أترك فأحدِّث بفضائل عليّ بن أبي طالب عليه السلام يومًا إلى الليل، وأن عنقي هذه ضربت بالسيف. قال [الإسكافي]: فالأحاديث الواردة في فضله لو لم تكن في الشهرة والاستفاضة وكثرة النقل إلى غاية بعيدة، لانقطع نقلها للخوف والتقية من بني مروان مع طول المدّة وشدّة العداوة، ولو لا أن لله تعالى في هذا الرجل سرًّا يعلمه من يعلمه لم يُروَ في فضله حديث، ولا عُرفت له منقبة».
وقال في معنى قوله سبحانه: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ): «وهذه من محاسن الاستعارة، وحقيقة الهُويّ النزول من علوّ إلى انخفاض كالهبوط، والمراد به ههنا المبالغة في صفة الأفئدة بالنزوع إلى المقيمين بذلك المكان، ولو قال سبحانه: تحنّ إليهم، لم يكن فيه من الفائدة ما في قوله سبحانه: (تهوي إليهم) لأن الحنين قد يوصف به من هو مقيم في مكانه، والهُويُّ يفيد انزعاج الهاوي من مستقرّه».
قال السيد الرضيّ طابت تربته في معنى قوله تعالى: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا): «هذه استعارة ومعناها: واصنع الفلك بأمرنا ونحن نرعاك ونحفظك، ليس أنّ هناك عينًا تلحظ، ولا لسانًا يلفظ، وذلك كما يقول القائل: أنا بعين الله، أي بمكان من حفظ الله. ومن كلامهم للظاعن المشيَّع والحميم المودَّع: صحبتك عين الله، أي في رعاية الله وحفظه».
موعظة علويّة بالغة: قال عليه السلام فيما روي عنه من خطبة عجيبة تسمّى بالغرّاء: «أولستم أبناء القوم والآباء، وإخوانهم والأقرباء، تحتذون أمثلتهم، وتركبون قدّتهم، وتطئون جادّتهم، فالقلوب قاسية عن حظّها، لاهية عن رشدها، سالكة في غير مضمارها، كأنّ المعنيَّ سواها، وكأن الرشد في إحراز دنياها، واعلموا أنّ مجازكم على الصراط ومزالق دحضه، وأهاويل زلله، وتارات أهواله، فاتقوا الله عباد الله، تقيّة ذي لبٍّ شغل التفكّر قلبه، وأنصب الخوف بدنه، وأسهر التهجّد غرار نومه، وأظمأ الرجاء هواجر يومه، وظلف الزهد شهواته، وأوجف الذكر بلسانه، وقدّم الخوف لأمانه، وتنكّب المخالج عن وضح السبيل، وسلك أقصد المسالك إلى النهج المطلوب، ولم تفتله فاتلات الغرور، ولم تعم عليه مشتبهات الأمور، ظافرًا بفرحة البشرى، وراحة النعمى، في أنعم نومه، وآمن يومه. وقد عبر معبر العاجلة حميدًا، وقدّم زاد الأجلة سعيدًا، وبادر عن وجل، وأكمش في مهل، ورغب في طلب، وذهب عن هرب، وراقب في يومه غده، وربما نظر قدمًا أمامه. فكفى بالجنة ثوابًا ونوالًا، وكفى بالنار عقابًا ووبالًا! وكفى بالله منتقمًا ونصيرًا! وكفى بالكتاب حجيجًا وخصيمًا!».