قال القاضي ابن خلدة لربيعة الرأي: " إني أرى الناس قد أحاطوا بك، فإذا سألك الرجل عن مسألة فلا تكن همّتك أن تخلصه، ولكن لتكن همّتك أن تخلص نفسك" إبطال الحيل لابن بطة (74)، الفقيه والمتفقه (2/ 169) حلية الأولياء (3/ 261).
الجهل قد يكون جهلا بالحكم، وقد يكون جهلا بالسبب الموجب للحكم، والجهل بالحكم لا يستلزم الجهل بالسبب كما لا يستلزم الجهل بالسبب الجهلَ بالحكم.
لا تلازم بين الأمرين؛ لأنّ العبد قد يجهل تحريم الميتة مع العلم بكون اللحم غير مذكّى، وقد يعلم تحريم الميتة ولا يعلم أن اللحم الذي تناوله لحم ميتةٍ. والكلام في العذر بالجهل يراد منه الجهل بحكم الوصف أو السبب.
وأما الجهل بالسبب فهو من انتفاء القصد أو من الخطأ في القصد كما قال تعالى: ﴿ولكن من شرح بالكفر صدراً﴾ ﴿وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت به قلوبكم﴾.
وتحرّر أن انتفاء القصد يغيّر من حقيقة الشيء فينتفي حكم تلك الحقيقة من ذاك المحلّ ضرورةَ انتفاء الحقيقة؛ لأن القصد شرط في انعقاد السبب وقيامه بالشخص؛ فإذا انتفى القصد في مقامٍ؛ فالسببية الشرعية منتفية، وانتفاء السببية يستلزم انتفاء حكم السبب؛ إذ شرط السبب شرطٌ لحكمه بخلاف شرط الحكم فإنّه ليس شرطاً للسببية والعليّة. وتحرّر: أنّ الجهل بالحكم مخالف لبقية الأعذار الراجعة إلى انتفاء القصد كالإكراه والخطأ، فالجهل لا يغيّر من حقيقة العمل، بل الجاهل كالعالم في مباشرة الفعل وتحقق القصد والإرادة؛ لأنّ الجاهل يأتي بالفعل اختياراً مع الإدراك لحقيقته، فهو كالعالم سواء بسواء. فلو كان العمل عبادةً لغير الله؛ فإنه يقوم في قلب الجاهل حقائق العبودية لغير الله؛ فيؤلّه المعبود ويقصده بالعبادة، ويقوم في نفسه كلّ مقامات العبودية من محبّة وتذلّل وخضوع واستسلام وخوفٍ وتعظيم وتضرّع واستكانةٍ.
أما بقية الأعذار الراجعة إلى انتفاء القصد كالإكراه والخطأ والنسيان فإنها تمنع قيام هذه المعاني العبودية بقلب المكرَه والمخطئ والناسي؛ لأنّ الإكراه وما في معناه يمنع تحقق هذه الأحوال والمعاني في قلوب هؤلاء؛ فلا ينعقد الوصف ولا تتحقق السببية الشرعية، وإذا انتفت السببية في محلٍّ فلا بدّ من انتفاء أحكامها كاشتقاق اسم الفاعل الحقيقي؛ لأن المشتقّ لا ينفكّ من وجود المشتقّ منه، فإذا انتفى المشتق منه فلا بدّ من انتفاء المشتق، وكذلك ينتفي التأثيم والعقاب لانعدام الوصف، لكن تلك الأحوال العبودية لغير الله كلّها متحققة في قلب الجاهل فيثبت في حقه الوصف الشرعيّ واسمه حتى في الفرعيات؛ فإنّ من شرب الخمر أو زنى يقال له: زانٍ وشارب خمر لوجود الفاحشة عن تعمد وقصدٍ؛ وبوجود ذلك يتحقق وجود الوصف وتتم السببية الشرعية وإن كان قد لا يعاقب بجهل الحكم في بعض المسائل.
وقس على هذا أعظمَ الذنوب على الإطلاق وهو الشرك الذي يقع من الجاهل وإن كان القيّاس يستغرب هذا التصوير من جهة أنه قياس أغلظ على أخف! لكن المقصود تقريب القضية للأفهام.
من خالف النقل والأثر أصيب بالاضطراب الفكري، ومن تابع الأحزاب السياسية والإسلامية أصيب بالازدواجية، ومن تابع السلطان أصيب بضياع الشخصية ومرض الانفصام، ومن سيطر عليه اعتبار الواقع عَمِي عن المتوقّع، ونسي الماضي.
ابتلي المجاهدون باختلاف الرؤية في قضايا الأمة وترتيب الأولويات، كما أصيبوا باستعجال النتائج واستبطاء النصر، وعصيان القادة، وأصاب قادتهم استبداد الرأي وعدم الاعتبار بالماضي واستشراف المآل.
قال شيخ الإسلام في درء التعارض: (قد يكون الرجل من أذكياء الناس، وأحدِّهم نظراً، ويعميه الله عن أظهر الأشياء.، وقد يكون من أبلد الناس، وأضعفهم نظراً، ويهديه لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، فلا حول ولا قوة إلا به. فمن اتكل على نظره واستدلاله، أو عقله ومعرفته، خُذِل،ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كثيراً ما يدعو ربَّه: «يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك».
إلى طلبة العلم: ارفقوا بعلمائكم، وتخلقوا بآداب وأخلاق أسلافكم، واعلموا بأن نقل أقوال الناس بالمعنى لا بحروفهم جائز بدليل الكتاب والسنة والإجماع؛ أما الكتاب؛ فإن الله سبحانه حكى في الكتاب العزيز أقوالَ الأمم قبلنا باللفظ العربي، سواء كانت لغاتهم عبرية أو قبطية أو سريانية أو غير ذلك، وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكي أقوال الأنبياء والأمم قبلنا باللفظ العربي، ولا ريب أن ذلك نقل بالمعنى، وأما الإجماع فما زال الصحابة والتابعون ومن بعدهم من العلماء يحكون كلام بعضهم بلفظ آخر، ولهذا قال جمهور العلماء بجواز نقل حديث رسول الله بالمعنى، وبالنسبة للنقل بالمعنى في مقالات الناس ومذاهبهم يقول شيخ الإسلام: (وأما مذاهب العلماء فما زال العلماء ينقلونها بالمعنى، وما علمت طائفة معتبرة نازعت في هذا، كما نازعت في نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) الرد على السبكي (1/ 397).
الخلاصة: لا حرج في نقل قول أحد وكلامه بالمعنى بشرط عدم تغيير معناه.
إلى العلماء والمربين: علّموا الناس أركان الإيمان والإسلام وأصول الدين، وما يحصل به الإيمان ويتحقق به الإسلام، قبل تعليمهم موانع التكفير ونواقض الإسلام؛ لأن المثبت للأصول أولى وأهمّ من جهات؛
ألا ترى أنك تعلّم حديث العهد بالإسلام شروط الصلاة وأركانها قبل تعليمه مبطلات الصلاة وموانعها؟
ألا ترى نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم كان يعلم الناس أول ما يدخلون في الدين ما يحصّل الإيمان لا مبطلاته؟ لأن المقصود حاصل بمعرفة الأركان دون المفسدات. وفي الفقهيات: يشترط لإمام الصلاة معرفة أركانها وشروطها دون المبطلات والموانع...... المهمّ: علّموا الناس أصول الإيمان وما يحصّل ذلك قبل القفز إلى موانع التكفير ونواقض الإيمان؛ لأن المقصود حاصل بمعرفة الأركان والشروط.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي جعل بعض خلقه مفاتيح للخير، وآخرين مفاتيح لغير ذلك، وجعل الهداة للحق ناصرين، وللباطل قاهرين. عدنا ـ والحمد لله ـ بعد حذف القناة، فأسأل العلي القدير أن يجعلنا على الحق إخواناً وفي نصرته أعواناً. وصلى الله وسلم على محمد وآله.