من لوازم العلمانية= إزاحة تقييم الواقع وإعادة ضبطه من خلال الوحي المُقدّس، فتُخترع معايير أرضية لسد هذه الفجوة التي كان ينبغي أن يغطيها الوحي، بل وتُنتزع المصطلحات الشرعية من واقعها الحقيقي ويُحرّف معناها لتوافق الأهواء الأرضية، وتفقد علاقتها بالسماء.
فالعلمانية تصارع لتُهَيمن على واقع الناس تقييما وتحاكما، وتزيح وتحاصر معايير السماء الربانية لتكون منزوعة الأثر عن حياة الناس؛ فتظل حبيسة صدورهم.
ومن عَلمنة العلم الشرعي= تجريده من النية الشريفة والعمل والخُلُق والأثر الواقعي، وتحويله إلى معلومات ذهنية ونصوص باردة يستوي فيها المسلم والمُستشرق، وهل هذا إلا شعبة من الأُمية المذمومة والأماني الباطلة!
ومن علمنة الفكر= تقييم الواقع من حولنا بمعايير مادية منقطعة الصلة عن السماء، لا تبصر عالم الغيب، تخلد إلى الأرض ولا ترجو الفردوس الأعلى، لا تفهم معاني التضحية والجهاد، ترى الشهادةَ هزيمةً، والتوكلَ على الله غرورا.
الدعوة إلى دين الله شرفٌ عظيم، يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله﴾ أَيْ: دَعَا عِبَادَ الله إِلَيْهِ، ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أَيْ: وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُهْتَدٍ بِمَا يَقُولُهُ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَأْتُونَهُ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَأْتُونَهُ، بَلْ يَأْتَمِرُ بِالْخَيْرِ وَيَتْرُكُ الشَّرَّ، وَيَدْعُو الْخَلْقَ إِلَى الْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَهَذِهِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ دَعَا إِلَى خَيْرٍ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُهْتَدٍ (انتهى).
فلا ينبغي أن يُدنّس هذا الشرف بجعل الدعوة إلى الله وسيلة لإرضاء السلطان أو تحصيل الأموال أو صرف وجوه الناس إليه ومنعهم عن غيره من أهل الفضل.
فمن صفّى صُفّي له، ومن خلّط ومزَج= وَجَد أثر ذلك في الدنيا والآخرة.
واعلم أن أهل المال والسلطة يعلمون شرف الدعوة وأثرها في قلوب الناس، فيُصيبون من الدعاة ويستغلون أثر دعوتهم؛ لتنفَق سلعتهم ويبقى سلطانهم، فيتحول الداعية -بشهرته التي اكتسبها من شرف الدعوة- إلى بوق لأهل السلطة أو مصدر دخل لأهل المال، عصمنا الله من الفتن.
ولذلك حذّر الوحي من كثرة خُلطة أهل الترف؛ فإنهم إما أن يحرقوا ثيابك التي أُمرت بتطهيرها، أو تجد منهم ريحا خبيثة تعمي بصرك عن رؤية حقائق الوحي؛ فتنكر ما كنتَ تعرف، وتلك هي الفتنة.
تحرير رائع لشيخ الإسلام في تنزيل آيات الكفار على المسلمين، يقول: (فطائفة من المفسرين تقول في هذه الآيات وما أشبهها: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما} هذه الآية في الكفار فيبقى من يسمع ذلك يظن أنه ليس لمن يظهر الإسلام في هذا الذم والوعيد نصيب؛ بل يذهب وهمه إلى من كان مظهرا للشرك من العرب فلا ينتفع بهذه الآيات التي أنزلها الله ليهتدي بها عباده. فيقال: أولا: المظهرون للإسلام فيهم مؤمن ومنافق والمنافقون كثيرون في كل زمان والمنافقون في الدرك الأسفل من النار. ثانيا: الإنسان قد يكون عنده شعبة من نفاق وكفر وإن كان معه إيمان كما قال النبي ﷺ: {أربع من كن فيه كان منافقا خالصا…وقد ثبت أنه قال لأبي ذر: {إنك امرؤ فيك جاهلية} وأبو ذر من أصدق الناس إيمانا..وإذا عرف هذا علم أن كل عبد ينتفع بما ذكر الله في الإيمان من مدح شعب الإيمان وذم شعب الكفر وكما يقول بعضهم في قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} . فيقولون المؤمن قد هدي إلى الصراط المستقيم فأي فائدة في طلب الهدى ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى ويقول بعضهم زدني هدى وإنما يوردون هذا السؤال لعدم تصورهم الصراط المستقيم فإن المراد به العمل بما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه في جميع الأمور). الفتاوى مختصرا: (١٠٥/١٠).
روى ابن أبي شيبة في «المصنف» (27173) والبخاري في «الأدب المفرد» (771)و(1157) والبيهقي في «شعب الإيمان» (9134)
عن مجاهد قال: «كان يكره أن يحد الرجل النظر إلى أخيه، أو يتبعه بصره إذا قام من عنده، أو يسأله: من أين جئت، وأين تذهب؟».
وروى البيهقي في «شعب الإيمان» (10697) من طريق محمد بن يزيد بن خنيس قال: قال لي ابن جريج: «إذا أنت لقيت أخاك فلا تسأله من أين جئت؟ فلعله أن يكون جاء من مكان لا يحب أن تعلمه، فإن حدثك من أين جاء فقد شققت عليه، وإن هو أخبر بغير من حيث جاء كتبت عليه كذبة. وكذلك إذا رأيته ذاهبا فلا تسأله أين يريد؟ فإذا أنت لم تسأله، فإياك أن تصحبه، لكي تعلم حيث يريد، وقيل: المكر والخديعة في النار».
❍ مجاهد هو ابن جبر المكي، تابعي من كبار علماء الإسلام. ❍ وابن جريج مكي من أتباع التابعين، وكبار علماء المسلمين.
الأنبياء يخرجون الناس من الظلمات إلى النور، والمجرمون يُبقون الناس في الظلمات، أما الطواغيت فيخرجونهم من النور إلى الظلمات [والَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهم مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ]، وإن من أعظم الناس إجرامًا مَن عَمَد إلى أرض شاع فيها الخير والبر فأشاع فيها الفجور والفُحش، [وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]، وهؤلاء هم رسل الشياطين وحُداة أقوامهم إلى الهلاك [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ]!
بعض الطيبين يقدم محتوى عفويا وربما كان مفيدا قصة أو قصيدة أو تجربة خاصة فتطير بها المواقع ويشتهر شهرة ينوء بها وهو طيب في ذاته وليس لديه أهلية ليقدم محتوى مفيدا وليس هو تافها ليقدم طرحا تافها... فيزين له الشيطان أن يواصل النصح والتوجيه وربما الوعظ والتعليم تحت وطأة الشهوة الخفية بالبقاء مشهورا وإغراء الظهور فينتقل إلى ورطة الفرية على الله والكذب على شرعه ودينه والقول على ربه بغير علم. وهذه ورطة مهلكة أشد من هلكة التفاهة نفسها.
استبطأ النبي ﷺ جبريل عليه السلام مرة في نزوله إليه فقال له: " لو تأتينا أكثر مما تأتينا " -تشوقا إليه، وتوحشا لفراقه، وليطمئن قلبه بنزوله- فأنزل الله تعالى على لسان جبريل: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ أي: ليس لنا من الأمر شيء، إن أمرنا، ابتدرنا أمره، ولم نعص له أمرا، فنحن عبيد مأمورون، ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ أي: له الأمور الماضية والمستقبلة والحاضرة، في الزمان والمكان،
فإذا تبين أن الأمر كله لله، وأننا عبيد مدبرون، فيبقى الأمر دائرا بين: " هل تقتضيه الحكمة الإلهية فينفذه؟ أم لا تقتضيه فيؤخره " ؟
ولهذا قال: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ أي: لم يكن لينساك ويهملك، كما قال تعالى: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ بل لم يزل معتنيا بأمورك، مجريا لك على أحسن عوائده الجميلة، وتدابيره الجميلة. أي: فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد، فلا يحزنك ذلك ولا يهمك، واعلم أن الله هو الذي أراد ذلك، لما له من الحكمة فيه.
"الغرض الاستحثاث على التقوى بأي صيغة كانت ... فأما الاقتصار على ذكر التحذير من الاغترار بالدنيا وزخارفها، فلست أراه كافيًا، من جهة أنها مما يتواصى به المعطِّلة المنكرون للمعاد".
فائدة ، في "الخطبة" !! *** " ... كره للخطباء : أن يقتصروا في خطب الجمع والأعياد ، على التذكير بالموت ، ونحوه من الأمور التي لا يختص المؤمنون بها . وأحبوا : أن يكون التذكير بما في اليوم الآخر ، مما أخبرت به الرسل . ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يقرأ في العَدد من خطبه : ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) ، لتضمنها ذلك ... " اهـ . ابن تيمية "جامع المسائل" (8/117) . *** وحاصل ذلك:
أن خطبة الجمعة ليست "مناسبة" اجتماعية، ولا هي "بروتوكول إنساني" ؛ بل هي : [شعيرة] محضة ، لها أحكامها "العبادية" . *** نعم؛ فكيف تكون "الكراهة" و"الشناعة" ، لو كانت خطبة الجمعة عن : ( المبادرات ) .. ( الإدارة ) .. ( السلام ) ، و (الاحترام) !! رحمتك يا ربي ...
أشد العقبات في سيرك نفسك، تلك الوثابة بشِرَّة الانتقام إذا جُرِحت، المختالة إذا ظفرت، المعجبة إذا أطاعت، المستخفة أو القانطة إذا ما عصت! ولا نجاة من شرها إلا باستغاثة الفقير بربه الذي يعلم السر وأخفى! ومن علم نفسه لم يطمئن إليها، وعصاها في طاعة ربه، ورحمة الخلق، لاسيما من سبق منه الأذى والظلم!
انظر إلى ما تتابع السلف على نسبته لسيدنا يوسف عليه السلام من قوله تعالى: "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إنَّ ربي غفور رحيم".
يقول الإمام أبو جعفر ابن جرير رحمه الله في إشارة مباركة:
يقول يوسف صلوات الله عليه : وَما أُبَرّىءُ نَفْسِي من الخطأ والزلل فأزكيَها . إنّ النّفْسَ لأمّارَةٌ بالسّوءِ يقول : إن النفوس نفوس العباد تأمرهم بما تهواه وإن كان هواها في غير ما فيه رضا الله إلاّ ما رَحِمَ رَبّي يقول : إلا أن يرحم ربي من شاء من خلقه ، فينجيه من اتباع هواها وطاعته فيما تأمره به من السوء . إنّ رَبّي غَفُورٌ رَحِيمٌ . انتهى كلامه! فهذا بيان من الكريم ابن الكريم ابن الكريم عليهم السلام تواضعا لربه وذلةً له، لا اختيالا عند ظهور براءته، ولا استطالة على من أوبقه ذنبه! بل قول فقير إلى ربه مقر ٍّ بفضل ربه عليه وإحسانه إليه!