وعي المستشرقين بدور الإمام الشافعي في التراث أحسن كثيرًا من وعي كثير من التراثيين والمتشرعة القائم على مجرد الثناء والتمجيد دون التبصر بالفعل في التاريخ.
حين يمتنع التصريح في النصّ، يفتح الباب أمام التأويل. والتأويل وإن كان اجتهادًا في التبين والتجلية، فهو ليس دائمًا فعلًا معرفيًا أو تؤسسه المعرفة فحسب، وإنما كثيرًا ما تتقرر وجهته تبعًا للمصالح التي تحمل على التعبير عنه بهذا الشكل دون ذاك.
ولمّا كان الكذب متطرّقا للخبر بطبعته وله أسباب تقتضيه: [1] فمنها التّشيّعات للآراء والمذاهب؛ فإنّ النّفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقّه من التّمحيص والنّظر حتّى تتبيّن صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيّع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأوّل وهلة وكان ذلك الميل والتّشيّع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتّمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله.
[2] ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضا: الثّقة بالنّاقلين، وتمحيص ذلك يرجع إلى التّعديل والتّجريح.
[3] ومنها: الذّهول عن المقاصد؛ فكثير من النّاقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنّه وتخمينه فيقع في الكذب.
[4] ومنها: توهّم الصّدق؛ وهو كثير، وإنّما يجيء في الأكثر من جهة الثّقة بالنّاقلين.
[5] ومنها: الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع، لأجل ما يداخلها من التّلبيس والتّصنّع فينقلها المخبر كما رآها وهي بالتّصنّع على غير الحقّ في نفسه.
[6] ومنها:تقرّب النّاس في الأكثر لأصحاب التّجلّة والمراتب بالثّناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذّكر بذلك، فيستفيض الإخبار بها على غير حقيقة؛ فالنّفوس مولعة بحبّ الثّناء، والنّاس متطلّعون إلى الدّنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها.
[7] ومن الأسباب المقتضية له أيضًا وهي سابقة على جميع ما تقدّم: الجهل بطبائع الأحوال في العمران؛ فإنّ كلّ حادث من الحوادث -ذاتا كان أو فعلا- لا بدّ له من طبيعة تخصّه في ذاته، وفيما يعرض له من أحواله؛ فإذا كان السّامع عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصّدق من الكذب وهذا أبلغ في التّمحيص من كلّ وجه يعرض.
إن تأريخا للفكر يُعرض عن تناول الأفكار والمنظومات الفكرية المتباينة في كليتها، ويجنح للانتقائية والتحزب الثقافي، ليس من تاريخ الفكر في شيء، ولا يقبل النظر إليه بوصفه جهداً علمياً.
كلما كبرت أو قرأت أو فكرت، تبين أن عملية المعرفة وتكوين الآراء واتخاذ المواقف أو نسبة الآراء لأصحابها عملية تكتنفها صعوبات كثيرة جدًا وأحياناً تكون معقدة، لا أقول إن الإنسان سيظل بلا رأي، أو أن كل قضية معرفية هي بتلك المثابة، لكن لا شك أن المعرفة تحتاج جهدًا كبيرًا وصبرًا طويلاً وإسقاط الخلق من الاعتبار عند النظر فلا يتأثر بهم لا سلبًا ولا وإيجابًا..
الغرب ازدواجي وابن ستين في سبعين ويرد فرض قيمه على العالم، وشايف نفسه الأمة اللي محصلتش..ولازم يخادنا جنبه.. صدقني، الدنيا من أول ما ربنا خلقها ماشية كدا، القوي يصبح الصبح ويروح يشوف الكلام على ايه ويحتل اللي جنبه أو يتحالف معاه، وكل يحاول فرضه قيمه أو معاييره على الآخر بما معه من قوة، أو يخاف منه، فيدعه هو وقيمه..
القدر التي تحتاجه العامةُ ليلتزموا بالإسلام ويستقيم أمرهم في الدنيا وتكون به نجاتهم في الآخرةِ، هو ما يتفق عليه فرق المسلمين -سلفيهم وأشعريهم- وكل من شهد الشهادتين وأقام الصلاة وحرّم المحرمات، وأما تتمايز به كل فرقةٍ فلا حاجة لعامة المسلمين به، وإنما يدعى الناس إلى كتاب اللهِ وإلى إسلام الوجه لله وحده دون ما سواه.
سئل شيخ الإسلام رضي الله عنه وأثابه الجنة: ما دواء من تحكَّم فيه الداء، وما الاحتيال فيمن تسلَّط عليه الخَبَال، وما العمل فيمن غلب عليه الكسل، وما الطريق إلى التوفيق، وما الحيلة فيمن سطت عليه الحيرة؟ إن قَصَد التوجُّه إلى الله مَنَعَه هواه، وإن رام الادِّكار غلب عليه الافتكار، وإن أراد يشتغل لم يطاوعه الفشل. فأجاب رضي الله عنه: دواؤه الالتجاء إلى الله تعالى، ودوام التضرُّع إلى الله سبحانه، والدعاء بأن يتعلم الأدعية المأثورة، ويتوخَّى الدعاء في مظان الإجابة؛ مثل آخر الليل، وأوقات الأذان والإقامة، وفي سجوده، وفي أدبار الصلوات. ويضم إلى ذلك الاستغفار؛ فإنه من استغفر الله ثم تاب إليه متَّعه متاعًا حسنًا إلى أجلٍ مسمّى. وليتخذ وِرْدًا من الأذكار طَرَفَي النهار ووقت النوم، وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف، فإنه لا يلبث أن يؤيّده الله بروح منه، ويكتب الإيمان في قلبه. وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس بباطنه وظاهره، فإنها عمود الدين. ولتكن هِجِّيراه: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، فإنه بها يُحْمَل الأثقال، ويُكابد الأهوال، ويُنال رفيع الأحوال. ولا يسأم من الدعاء والطلب، فإن العبد يُستجاب له ما لم يَعجَل فيقول: قد دعوتُ فلم يستجَبْ لي. وليعلم أن النصرَ مع الصبر، وأنَّ الفَرَج مع الكرب، وأن مع العُسر يسرًا، ولم ينل أحد شيئًا من جسيم الخير -نبي ٌّفمَن دونه- إلا بالصبر. والحمد لله رب العالمين.
من العلوم الإنسانية المفيدة للباحث في التصوف علم الأنثروبولوجيا. ومن العلوم الإنسانية المفيدة للباحث في العقائد اللسانيات وفلسفة اللغة. ومن العلوم الإنسانية المفيدة للباحث في الفقه الاجتماع وعلم النفس.
مراعاةُ عوائد الأمم المختلفة هو خلاف الأصل في التشريع الإلزامي. وإنما يسعه تشريع الإباحة حتى يتمتع كل فريق من الناس ببقاء عوائدهم. لكن الإباحة لما كان أصلها الدلالة على أن المباح ليس فيه مصلحة لازمة ولا مفسدة معتبرة لزم أن يراعى ذلك في العوائد. فمتى اشتملت على مصلحة ضرورية أو حاجية للأمة كلها، أو ظهرت فيها مفسدة معتبرة لأهلها لزم أن يصار بتلك العوائد إلى الانزواء تحت القواعد التشريعية العامة من وجوب أو تحريم، ولهذا نرى التشريعَ لم يتعرّض لتعيين الأزياء والمساكن والمراكب، فلم يندب الناس إلى ركوب الإبل في الأسفار. ولم يمنع أهل مصر والعراق من ركوب الحمير، ولا أهل الهند والترك من الحمل على البقر. ولذلك لم يحتج المسلمون إلى تطلب دليل على إباحة استعمال العجل والعربات والأرتال. وكذلك أصناف المطاعم التي لا تشتمل على شيء محرم الأكل بحيث لا يسأل عن ذلك إلّا من جاهل بالتركيب أو جاهل بكيفية التشريع.
فنحن نوقن أن عادات قوم ليست يحق لها - بما هي عادات - أن يُحمَل عليها قوم آخرون في التشريع، ولا أن يُحمل عليها أصحابُها كذلك. نعم يراعي التشريع حمل أصحابها عليها ما داموا لم يغيّروها، لأن التزامهم إياها واطرادها فيهم يجعلها مُنَزَّلة مَنْزِلَة الشروط بينهم يُحملون عليها في معاملتهم إذا سكتوا عما يضادُّها. ومثاله قول مالك رحمه الله: بأن المرأة ذات القدر لا تجبر على إرضاع ولدها في العصمة، لأن ذلك عرف تعارفه الناس، فهو كالشرط، وجعل قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}مخصوصاً بغير ذات القدر، أو جعله مسوقاً لغرض التحديد بالمدة، وليس مسوقاً لأصل إيجاب الإرضاع.
المحبة أمر قهري، وللتعلق بالمرأة أسباب توجبه قد لا تتوفر في بعض النساء، فلا يكلف الزوج بما ليس في وسعه من الحب والاستحسان، ولكنّ من الحب حظًا هو اختياري، وهو أن يروض الزوج نفسه على الإحسان لامرأته، وتحمل ما لا يلائمه من خلقها أو أخلاقها ما استطاع، وحسن المعاشرة لها، حتى يحصل من الإلف بها والحنو عليها اختيارًا بطول التكرر والتعود. ما يقوم مقام الميل الطبيعي. فذلك من الميل إليها الموصى به في قوله: فلا تميلوا كل الميل، أي إلى إحداهن أو عن إحداهن.
وكان حقاً على أئمة الفقه أن لا يساعدوا على وجود الأحكام التعبّدية في تشريع المعاملات، وأن يوقنوا بأن ما ادُّعي التعبّد فيه منها إنما هو أحكام قد خفيت عللُها أو دقت. فإن كثيراً من أحكام المعاملات التي تلقاها بعض الأئمة تلقيَ الأحكام التعبدية قد عانى المسلمون من جرائها متاعب جمّة في معاملاتهم، وكانت الأمة في كبد على حين، يقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
وعلى الفقيه أن يجيد النظر في الآثار التي يتراءى منها أحكام خفِيت عللُها ومقاصدها، ويمحّص أمرها. فإن لم يجد لها محملاً من المقصد الشرعي نظر في مختلف الروايات، لعله أن يظفر بمسلك الوهم الذي دخل على بعض الرواة، فأبرز مرويه في صورة تُؤذن بأن حكمه مسلوبُ الحكمة والمقصد. وعليه أيضاً أن ينظر إلى الأحوال العامة في الأمة التي وردت تلك الآثار عند وجودها.
إن أهم المقاصد لتهيئة إقامة الشريعة وتنفيذها هو بث علومها، وتكثير علمائها وحملتها. وذلك فرض كفاية على الأمة بمقدار ما يسد حاجتها ويكفي مهماتها في سعة أقطارها وعظمة أمصارها.
الطاهر ابن عاشور
قلت: وكل علمٍ تحتاجه أمة من الأمم في إصلاح شأنها في الدنيا فهو مأمور به مقصود شرعًا.
وللمصالح والمفاسد تقسيم آخر باعتبار كونها حاصلةً من الأفعال بالقصد، أو حاصلةً بالمآل. وهو تقسيم يسترعي حذق الفقيه. فإن أصول المصالح والمفاسد قد لا تكاد تخفى على أهل العقول المستقيمة. فمقام الشرائع في اجتلاب صالحها ودرء فاسدها مقام سهل، والامتثال إليه فيها هيَّن، واتفاق علماء الشرائع في شأنها يسير.
فأما دقاق المصالح والمفاسد وآثارها ووسائل تحصيلها وانخرامها فذاك المقام المرتبك. وفيه تتفاوت مدارك العقلاء اهتداء وغفلة، وقبولاً وإعراضاً، فتطلع فيه الحيل والذرائع. وفيه التفطن للعلل وضدُّه، وفيه ظهر تفاوت الشرائع، وفازت شريعة الإسلام فيه بأنها الصالحة للعموم والدوام.
لا ينبغي أن يقتصر الغرض من تربية البنت على تعليمها كيف تكون زوجة، إلا إذا كنا نعلِّم الفتى في المدارس ليكون زوجًا، والواجب أن نُعنَى أولًا بتعلُّمها ما تنشأ به امرأة قادرة على النهوض بنصف أعباء الهيئة الاجتماعية، فإن العِشرة الزوجية ليست حرفة يتلقى الطالب أسرارها في دور التعليم، ولكنها عمل كسائر أعمال الحياة يُحسنه الإنسان أو لا يُحسنه بمقدار ما له من الحذق والاختبار.
لك أن ترى ما حدث نصرًا أو هزيمةً، أو سمه ما شئت؛ لكن لا تجعل شيئًا من ذلك ينسيك أنّ ما فعله المجرمون جريمة في سجل جرائمهم العظمى، وأن المصاب جلل وشديد جدًا، والخذلان عظيم، وأي محاولة للتغطية على تلك الجريمة بالكلام الإنشائي، فهي ضحك على النفس ومساهمة في التخدير واستهانة بدماء وبلاد دمرت وهجر أهلها، ولن يعدو إلإ أن يكون ممارسة من صاحبه لإقناع متابعيه القابعين خلف الشاشات مثله بقدرته على الإقناع والحجاج عن رأيه، لكن تصديق الجمهور لن يغير من حقيقة الكارثة شيئًا تلك الجريمة التي ينبغي أن تظل راسخة وحاضرة أمام أعين الناس وفي أذهانهم، تكون وقودًا لأقل عمل يستطيعه كاره لظلم إنسان، لا أن نشارك في نسيانهم بأيدينا بمعسول الكلام الذي لا يسمعه إلا نحن ولا يريح إلا ضمائرنا..وربنا يعوض الناس خير ويربط على قلوبهم، ويجزيهم بما صبروا خيرا