تراهُ طويلَ الصمتْ، عيناه تشردانِ مطولا..، تشعر وكأنه يفيضُ من فرطِ حنينه وخواطره ، ولا يبثُّ منها شيء ، ولا يظهرُ على ملامحهِ إلا الاتزان، لا يجمعهُ مع الخلقِ سوا الاحسان إليهم ، يمشي يحاكي الطريقَ الطويل ، وأشجارُ الياسمين متنفَسُه ، والرّيحُ تداعبُ وجهه ، ترى وجهه يتقلّبُ كثيرا في صفحة السّماء ، ويطيلُ النّظر ، وكأنّه يخوضُ حديثا طويل ، يبثُّ همومه وأحزانه.. في عالمٍ غير عالمنا، هو يعيشُ هُناك وينتمي إلى هُناك ، تراهُ يمشي بين الناس ويحادثهم ويتعاملُ معهم ، ولكنّ روحهُ وقلبه وعقله وهو بكلّيته لله.. يبكي لله، ويعملُ لله... ويحبُّ لله.. ويغضبُ لله.. وقلبُه المرهف المحب الرقيق هو لله ، في كلِّ أمرٍ في حياتِه هو يقدّم الله قبلَ كلِّ شيء.. هو لله فقط..🌿🤍✨
لله تعملُ والفؤادُ يُحبُّهُ ترجو القبولَ وأن تنالَ مزيدا
لكلٍّ منّا هَمّ، فقد، يدفنه في قلبه، يخفيه عمن حوله، ويبكيه بأعماقه، يعانيه بينه وبين نفسه.
ولو حيزت لكَ الدنيا، ثمة مشاعر وأكدار وصعوبات لا يمكنك تجاوزها، إلا بالذكر.
تتخلل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مساماتك فتورق بالأمل، ويخضرُّ لك الطريق الأسود. وتفتح له قلبك فيفتح لك قلبه الشريف فيحوطنا جميعًا ويدعو لنا.
تعيش معه في واحته، ترحل إليه، تجلس بين يديه، تحاكيه بأحزانك، تبثّه آهاتك، كأنه يصغي لك، كأنه يقول ما لك يا بني؟ تفرغ كل شيء عندك فيصغي ولا يقاطعك كما كان تمامًا يفعل مع الصحابة، فيُهديك أحوج ما تحتاجه وهو الشعور بالسكينة والسعادة والمواساة رغم وجود أحزانك.
وبشفاعته تحيا، وبظل عنايته تنطوي وتطمئن، ولأجل عينيه صلى الله عليه وسلم ينجيك المولى من كثير من المواقف الصعبة والبلايا والمحن.
قُل لي بربّك، كيف ستكون حياتك والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو لك كلما صلّيت عليه؟ كيف ستغدو مع دعاء كل الملائكة لك، ومع نقلة من المولى لك من الظلمات للنور؛ أي من كل أحزانك لكل الأفراح. وترتقي درجات فوق درجات في الجنة وأنت لا تدري!
وعيك يختلف، قِيَمُك تختلف، همومك ترتقي، والأبوابُ تُفتح لك، وتتشرّب من صفات نبيك فيعالجك من ذنوبك وعيوبك وآفات نفسك.
وبآدمان الصلاة عليه، صلى الله عليه... كأنك تجلس على سجاد مدينته الأخضر، تبسط له قلبك المكسور ألفَ ألفِ كسر، فيمسحه ويحنو عليه ويُطيِّبه ثم يعيده إليك.
ما غاب عنّا، والمحبّون يدركون ذلك تمامًا (واعلموا أنَّ فيكم رسول الله...)
وواللهِ... لولا الصلاة عليه لما أحببنا البقاء في الدنيا.
كلُّ مافي الأمر جلسة حُبٍّ هناك ، فقط جلسة واحدة، جلسةُ همسِ حبيبٍ لحبيب، جلسةٌ تنزعُ من القلب الآلام والأسقام وتُدخل عليه السرور والأمان.. جلسةٌ تمسح على القلب بدفء وحنان! أن أُجالسَ الوضيء المصطفى صلى الله عليه وسلم وأخلو معه وأشكو وأُرسل مع أنفاسي ما أُقاسي، ومشاعري تنسابُ منّي وتتدفق إليه، يكفيني أن أشعر بالقُربِ منه، وتتسارعُ أنفاسي مع خفقاتِ قلبي عندما أتخيّل أنّه الآن يتجولُ في مجلسنا هذا، ويعلمُ الحُبّ والشوقَ فينا ويدعو لنا.. يا رسولَ الله نحنُ لسنا بهذا الصّلاح ولسنا أهلًا لجلسةٍ مثلَ هذه في مسجدك الشريف، لـكنّ الشوقَ إليك غلّاب.. ومازال القلب يتردد إلى الأعتاب ، ويدمنُ الإياب.. ويعشقُ نفحاتَ الوصال..
ولا يزالُ القلب يردد في كل سجدة ربِّ اجعلني قرّة عينٍ لا تنقطع لسيّدي ﷺ 🕊️🌿🤍
أرقى إليك وحدي.. بأسقامي، وآلامي ووحشتي، أخلَعُ ثوبَ تعلّقي بالخَلقِ وأهرعُ إليك، وعبراتي تتساقطُ كحبّاتِ البَرَدِ في ليلة شتاءٍ عاصفة، حاولت أن أطوي ذكرى الظاعنين فما انطوت، فدعوتك ياربّ منك العِوض، فلاقيتُ شيئًا لعلّي من سروري به حسبتهُ جبرًا، فسمعتُ كلماتٍ كسّرت قلبي لعلها ، وذرفتُ دموعي بحرقة ومازالت تلك الكلماتِ تتردد فيّ ولا يعلمها سِواك، أفضتْ بي هذه المواقفُ والابتلاءات إلى أن أُدرِك أن الربّ هو المربّي، رغمَ قساوة المواقف والابتلاءات، يريدكَ أن تعلم وتدرك كل الإدراك أنّ غيره لا يبقى معك ولا يُريدُ منك أن تعلّق قلبك بسواه،
فسلّمتُ أمري إليك، لعلي لا أرى الآثار، ولكنّي أبصرُ النفحات، نفحاتُ جبرك ولطفك التي لم تفارقني قط، الأمان والطمأنينة والحنان، كلّها أجدُها في جلسةِِ أشكو لك فيها ما أُقاسي ، وأمضي.. و{ قد أحسن بي }
ها هوَ الآن جالسٌ في المسجد ، بين دفّتي مصحفه، بعد غيابٍ طال زمنًا لم يكُن يحتسبه من عمرِه، وقد أرخى على وجهه شيئا من عمامته، لا يريدُ أن يُعرف أو أن يكلم أحدا، رفع رأسه ببطء وأخذَ نظرةً خاطفةً للنّاس في المسجد، هذا يسجدُ، وذاكَ يدعو، وآخَر يترنّم بالآيات بصوتٍ حانٍ ويسمّعُ لشيخه، نَعم؛ هو ينتمي إلى هُنا، ولكن لِمَ هو بهذا الضعف ؟، طأطأ رأسه وعاودَ النّظر في مصحفه، مدّ يده ملامسًا صفحاته، شيءٌ من النّور يداعبُ أنامله، أغمضَ عينيه وتنهدَ تنهيدةَ تائبٍ أهلكته الذنوب، وحده مع الله.. في بقعةٍ في بيتٍ من بيوتِ الله، هو جالسٌ أمامَ كلامِ الله.. بدأ يقرأ وردَهُ من القرآن، فانكشفت له الأسرار وانعكس بريقُ الآيات على وجهه المسود بياض، في كلّ حرفٍ أجر، وفي كل آية معنى مضيء ورسالة، بدأ يغسلُ قلبه المُتعب بالأنوار، فنسيَ نفسه وطالَ حالُهُ لساعات، فغدَت الرّوحُ سماويّة، تتمايلُ وتشعّ نورًا في هذه البقعة فأهدته الدفء والحُبّ ، فغدَت كأنها بقعةٌ تحتَ مظلةٍ حنونة في مدينةِ الحبيب، وقد همسَ حبيبٌ لحبيب، فعرّش السّرور على قلبه،قد كان محتاجًا ليتنفسَ القُرآن، كانَ فارغا مكسور،فخلا بربّه فصارَ ممتلئًا بالحُبّ ومجبورا..🤍