سر مع صاحبك ولو على أبطئ سير لديه، وبمختلف تقلباته الحياتية، ولا ترتجي منه المثالية في كل حين، لا في سلوكياته الشخصية، ولا في تعاملاته الصحبوية، واحذر أن تهدم جدار الصحبة بمطرقة النخبوية...
إن أحسن فامدح إحسانه، وإن تقاصر فلا تكثر اللوم والتأنيب. وإن أعيا جملُ (جابرك) فلا تعب عليه كما يفعل الناس، بل احمل (عصا النبي صلى الله عليه وسلم) وانكزه بها، وتذكر أن المُنبتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى...
في هذا المحيط كل شيء يدعوك للرياء والتشبع والفخر والخيلاء وإحباط العمل؛ التصوير، الكتابة، حسابات وسائل التواصل، حتى المجالس الخاصة صارت لتمجيد الذات، والتباهي بالنفس، ولتفكه كل واحد بإنجازاته وانتصاراته، إلى أن صار همُّ الجليس أن يفحم جليسه بسيل من الكلام عن نفسه وتطوراته وما صنع وما قدم وما تفوق، على صعيد الدنيا والدين، امتلأت الأجواء تصنعاً وتجملاً، ترى سباقاً في محاولة لفت الأنظار، وجلب الأضواء، والقليل من يحفظه الله من مثل هذا. فخير لك والله، في مثل هذه الأجواء المفعمة برائحة العجب؛ أن تعود نفسك على الإنجاز ولكن بخفاء، في غياب عن أعين الناس، وإذا سألك أحدهم ما جديدك؟ فقل: لا شيء، لا جديد؛ وأنت تخفي وراء ذلك إنجازات عظيمة بينك وبين الله، انتصارات في ميزان الإله، لا في ميزان البشر، تعرج بك في مراقي الخلود...
وأشقى الناسِ من يقيم لإقبال الخلقِ إليه أو إعراضهم عنه شأناً عظيماً في قلبه، وأسعدهم من لا يبالي بذلك شيئاً ولا يتبرَّم، ويزهدُ في إتيان من أتى وعزوف من عزف، ذاكَ الذي علَّق قلبه برحمة الله، وتخفف من أثقال التعلق بالمخلوقين، وأخذ من التسليم والترك راحةَ نفسه وسكينةَ قلبه، وكسا نفسَه ثوبَ العزة بتخففه وزهده واستغنائه...
لا شيء يطعنُ في روح المُحبِّ ويمزِّقُ فؤادَه كعجزه عن إزاحة الهمِّ الذي جثم على صدرِ محبوبه، أو تفريج كربته أو تغيير حاله. عندما يراه يتلوَّى بألمه، قد أحاطتْ به الأوجاع، ورزأتهُ النوائب، يكاد قاربه أن يغرق، ولا تقوى يداه على التجديف، لا حولَ له ولا قوة إلا المواساة، التي تمسحُ على القلب، وتسكِّن الآلام حيناً من الوقت! لو كانت الأرواح تُهدى وتُقدَّم فداءً للمحبوب حتى يستعيدَ عافيتَه ويقفَ على قدميه وينهضَ أمَلُه للحياة لقدمها غير هيَّاب، وهل ثمة أغلى منها يُقدم فداءً! لا أظن أن شعوراً أقسى من هذا يسكن قلب محبٍّ صادق...
ما رأيت إكراماً كإكرام المرء نفسه، يختار لها من يليق بصحبتها وحبها، ينزلها منازل عز وشرف، ينأى بها عن مواطن المهانة والسفه، يقيمها مقام كمالها الحقيقي في العبودية لخالقها ومولاها، ينتقي لها من كل شيء أطيبه وأنقاه...
أجد نفسي مستسلماً للاختيارات القدرية في حياتي، تلك المنعطفات التي تستعصي على الممانعة؛ صديقٌ جديد يدخل حياتي من غير ترتيب، وآخر قديم يغادرني من غير أسباب، عملٌ أُصرف عنه رغم إقبالي، وآخر يتم ويتيسر من غير تفكير وسعي، أعزم على أمر بكل جهدي فيُفسخ هذا العزم، وغيرها من التحولات في دروب الحياة المتشعبة. وقد قيل لأعرابي : بم عرفت ربك؟ فقال: بنقض العزائم وصرف الهمم...
هذه الأختيارات الربانية التي تُرتَّب لنا في عالم الغيب لا ندري عنها شيئا؛ هي محض ألطاف من المولى الطيب، فلتطب لها نفوسنا...
إنَّ الشهيد لم يمت، بل هو حيٌّ في ضمائرنا، وهاهو نورُ شهادته يحيي به الله ما مات في قلوبنا أو يوشك أن يموت، تنبعثُ ذكراه لتنبعث معها قلوبنا من ركونها، أيُّ بركة جعلها الله لهذه الدماء الزكية، تتجدد بها في أمتنا الحياة! إنَّ أمة جعل الله موتَ بعضها حياةً للآخر لأمة عظيمة مباركة...
يَمضي إلى ربِّه، طاويًا حُزنَه في صَدرِهِ عن كُلِّ مَخلوق، قاصِرًا شَكواهُ على اللَّطيفِ الخبير، تبيَضُّ عيناهُ فلا يتسوَّلُ عطفًا ولا يَستَدِرّ شَفقةً.. بعضُ المواقِف تنحِتُكَ فيها الآلامُ ويتنكَّر فيها أقرَبُ قريب؛ هُناك.. كُن يعقوبيًّا وتولَّ عنهُم...
ولقَد ذَكَرتُكَ.. فَمَا عَسَاهُ يَفعَلُ المُشتَاقُ؟ 💔 ها هو ذا قلبي قبل قلمي.. وحبِّي قبل حبري.. يهتف؛ هتاف شوقٍ علىٰ هيئة حروف.. علَّه يبلُغ إليِّك! يا خليلي: أنا الخِلُّ الَّذي تخلله الفقد والوجد مُذ غاب مبسم وجهك الوضَّاء، وبقيت وحيدًا أسيرًا بين ﴿اثَّاقَلْتُمْ﴾ و ﴿أَرَضِيتُم﴾!
حتَّىٰ من كانوا يشدُّون أزري لحِقوا بك علىٰ ذات السَّبيل وحاجاتهم في صدورهم لم تُقضىٰ بعد، وأبا عبيدة إذ كان يُعزيني بك هو أيضًا رحل يا خليلي!
يا لبؤس العيش الَّذي لا تكونون فيه.. فكم بكينا أيامكم علىٰ اعتاب الفراق!
حتَّىٰ المدينة التي جمعتنا لسنواتٍ قد شحب وجهها، وتحاول أن تظهر جمالها جاهدة.. ولكن تعود لأدراج الوحشة والألم.. ونحن نذوق من هذا الألم! لن يَّستشعر حجم فجوة رحيلكم، من لم يعرفكم، ويزاحمكم في ميادين لا تليق سوىٰ بكم، وشاء الله أن تكونوا من النوادر التي يعزُّ تكرارها.. ولله كانت ندرتكم...
الصحبة الصالحة: هي كنزٌ عظيمٌ وخصوصًا إن كان أهلها ممن أنعم الله عليهم بالخلق الحسن والنصح ومن أصحاب الهمة والحرص على الأمة، وحمل قضيتها والجِهَادِ في سبيل الله.
صدقوني إذا وجدتم أمثال هذه الصحبة فإنكم لم تفقدوا شيئًا؛ فقط عليكم أن تتبعوهم وترافقوهم وهم سيكونوا منارة طريقكم لمرضاة الله سبحانه.
لكن بالمقابل كن صديقًا لهم بحق؛ نعم بحق الصداقة؛ بحق العون لأخيك؛ بحق الأخوة، بحق النصح والأمانة...