View in Telegram
النُّتف | خبيب الواضحي
﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا﴾ أكثر غلط الإنسان يكون من جهة السمع، لأنه أعمُّ وأشمل في إدراك المعلومات لكنه أقل تدقيقا وتفحُّصًا لها، ولذلك جاء في الترتيب أولا لأن…
•|  المنجىٰ مِن آفة السَّمع  |•

سألتني تعليقًا علىٰ هٰذا المنشور: ما سبيلُ الحكمِ الصّحيحِ علىٰ ما يُسمَع مِن الأخبار؟

وسؤالُك حمّالُ وجوهٍ، فأنا أجيبُك بما حضَرني:

فاعلم أنّ ضرَرَ السّمعِ ليس مِن أجلِ السَّمع، فإنّ المرءَ كثيرًا ما لا يجدُ بُدًّا مِن أن يَسمَعَ، ولو لم يكن مستمعًا، وإنّما يعودُ ضَرَرُه إلىٰ ضررِ العملِ به، بالاعتقادِ تارةً، وبإفشاءِ الحديثِ تارةً، وبالحكمِ بموجَبِه تارةً، كما قال اللهُ منبّهًا علىٰ ذٰلك: ﴿إذ تلقَّونه بألسنتكم﴾، فعابهم إذ كانت أسماعُهم لاقطةً كلَّ ساقطةٍ، وكانوا يُشِيعون الإفكَ العظيمَ، لا يتحرَّون، حتّىٰ صارتْ ألسنتُهم آلةَ سمعِهم، وقال اللهُ سبحانه: ﴿إن جاءكم فاسقٌ بنبإٍ فتبيَّنوا أن تصيبوا قومًا بجهالةٍ فتصبحوا علىٰ ما فعلتم نادمين﴾، فشرَع التّبيُّنَ رعايةً للحقوقِ، لئلّا يُعمَلَ علىٰ باطلٍ، أو يُصابَ بريءٌ. والله أعلم.

ولا يجدُ المرءُ بدًّا أن يَسمَعَ، ولو تكلَّف اتّقاءَ السَّمعِ، وإنّما الشّأنُ أن لا يَعمَلَ علىٰ شيءٍ سَمِعه حتّىٰ يتبيَّنَ ما فيه، فعن ذٰلك هو مسئولٌ.

فالطّريقُ إلىٰ سلامةِ السّمعِ، وصحّةِ الحكمِ على الأخبارِ: التّحرّي لما يسمعُ، والتّفتيشُ فيه، والتّوقّي لما يَظُنّ به الكذبَ، والوقفُ لما يتردَّدُ فيه، أو يشتبهُ عليه، والانتقاءُ لِما يَعتقدُ مِن المسموعِ، ولِما يَتحدَّثُ به، أن يبلغَ به الثِّقةَ، ويكونَ عنده صحيحًا، يَجري في ذٰلك علىٰ قوانينِ أهلِ الحديثِ في تمييزِ الأخبارِ، وهي قوانينُ مُدرَكةٌ بالفِطَر السّويّةِ، يستعملُها النّاسُ في معتادِ أمرِهم. وأن لا يَهتلِكَ بكلِّ خبَرٍ، أو يبتذلَ سمعَه لكلِّ لَقًى، أو يميلَ مع رجمِ الظّنون، ويذَرَ مقاطعَ اليقين! فإنّه دأبُ القليلِ العقلِ، الضّعيفِ التّدبير.

فإن يكن مَن يستمعُ إليه مأمونًا، يأخُذُ منه الحكمةَ، كان عليه أن ينزلَ ذٰلك مَنزلتَه مِن الرّعايةِ له، والعنايةِ به، والإقبالِ عليه، فيتلقَّاه تلقّيَ الكِرامِ بالحفاوةِ والإعظامِ، ويُحسِنَ استعمالَ الآلةِ، ويوظِّفَ المنفذَ كما خُلِق له، ويُصغيَ إلىٰ ما يَسمَعُ، ويلقيَ إليه سمعَه وهو شهيدٌ، ويعينَ سمعَه بالنَّظر، ويَهتِكَ الحُجُبَ الصّارفةَ، كما قال اللهُ: ﴿وإذا قرئ القرآنُ فاستمعوا له وأنصتوا﴾، وقال: ﴿واتَّقوا الله واسمعوا﴾، وقال: ﴿إنّ في ذٰلك لذكرىٰ لمَن كان له قلبٌ أو ألقى السّمعَ وهو شهيدٌ﴾، وقال في أهلِ المَذَمّة: ﴿ولا تكونوا كالّذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون إنّ شرَّ الدّوابِّ عند اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الّذين لا يعقلون﴾.

وما أحسَنَ ما أخرج مسلمٌ في مقدِّمةِ «الصّحيح»، عن مجاهدٍ قال: جاء بُشَيرٌ العَدَويُّ إلى ابنِ عبّاسٍ، فجعَل يحدِّثُ ويقولُ: قال رسولُ الله ﷺ، قال رسولُ الله ﷺ، فجعَل ابنُ عبّاسٍ لا يَأذَنُ لحديثِه [أي: لا يَسمَعُ]، ولا ينظُرُ إليه، فقال: يا ابنَ عبّاسٍ، ما لي أراك لا تَسمَعُ لحديثي؟ أحدِّثُك عن رسولِ اللهِ ﷺ ولا تسمعُ؟! فقال ابنُ عبّاسٍ: «إنّا كنّا مرّةً إذا سمعْنا رجلًا يقولُ قال رسولُ اللهِ ﷺ ابتدرتْه أبصارُنا وأصغيْنا إليه بآذانِنا، فلمّا رَكِب النّاسُ الصَّعبَ والذّلولَ لم نأخذ مِن النّاسِ إلّا ما نعرف»، وفيه بيانٌ وعظةٌ وعبرةٌ، وردٌّ إلىٰ ما قدَّمْنا.

وقال يحيى بن خالدٍ البَرْمكيّ، وتروىٰ لمصعب بن الزُّبير: «النّاسُ يكتُبون أحسنَ ما يسمعون، ويحفظون أحسنَ ما يكتبون، ويحدِّثون بأحسنِ ما يحفظون»، وما قال: «النّاس»، إلّا لموضعِ الكمالِ، وتمامِ المِدحةِ، وهم أهلُ الفَطانةِ والحذقِ، فلقد انتَقَوا مِن المسموعِ أحسنَه ثلاثَ مرّاتٍ، فصار حديثُهم منتقًى مِن منتقًى مِن منتقًى، وأصابوا قولَ الله: ﴿فبشِّرْ عبادِ الّذين يستمعون القولَ فيتّبعون أحسنَه أولئك الّذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألبابِ﴾، وخليقٌ بمَن يجعلُ ذٰلك دَيْدانَه في ما يَسمَعُ أن لا يأتيه المكروهُ مِن قِبَلِ ما يقولُ.

واللهُ أعلم.

•┈┈• ❀ ❀ •┈┈•

النُّتف
Love Center - Dating, Friends & Matches, NY, LA, Dubai, Global
Love Center - Dating, Friends & Matches, NY, LA, Dubai, Global
Find friends or serious relationships easily