كان ﷺ ليِّن الجانب مع الضعفاء، متواضعًا لهم، يقول أنسٌ رضى الله عنه: (إن كانت الأمَة من إماء المدينة لَتأخذ بيد رسول الله ﷺ، فتنطلق به حيث شاءت).
هكذا بلا موكب، وبلا خدم، ولا حشم، تأتيه الأمَة (تقول بعض الروايات: إنّ فى عقلها شيئًا!)، فيسير معها حيث شاءت، و هى تروى له حاجتها، و تحكى له مشكلتها، فلا يطلب منها أن تأتى أبا بكر لينظر فى حاجتها، أو يحيلها على عمر لتسجل موعدها لديه ، بل كان هو من ينطلق معها، و ينظر فى شأنها بكل عفوية عظيمة، و تواضع مهيب!
يقول النبي -ﷺ- بصوت يقتلع جذور الدنيا، ويَسحَقُ أجزاءها العلوية: «ما لي وللدنيا؟»، وكأنَّ الصدى يكرر تلك الكلمة الجبارة:
ما لي وللدنيا.. ما لي وللدنيا.. ما لي وللدنيا؟!
فتنطفئ الدنيا فجأةً..
ثم يكمل: «ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظَلَّ تحت شجرةٍ، ثم راح وترَكها».
أخذت تلك الكلمة: «ما لي وللدنيا» تنداح في الأجواء، وتتقاذَفُها الأصداء، وتتوغَّل في تلك النفوس التي كانت تحاول استيعاب مقدار العظمة التي تنطوي عليها تلك النفس الزكية.
الدنيا ليست حديقة غنَّاء، ولا شجرةً في هذه الحديقة، الدنيا ظل شجرة! إنها أقل من أن تكون شجرةً! إنها الظل الزائل، إنها البقية الباردة التي في الكأس، إنها الأشياء التي تختفي بمجرد أن نحدق فيها.
ثم استمع إلى «راح وتركها»، ومُدَّ قليلًا في «ترَكَها»، اجعَلْ نهايتها خُفُوتًا يلائم خفوت الدنيا، وتلاشيها في نفس الرجل النبيل عليه الصلاة والسلام.
يقول عبد الله بن سلام وقد كان يهوديا فأسلم فيما بعد : «لما قَدِمَ النبي -ﷺ- المدينة، انجفل الناس قبله، فقالوا: قدم رسول الله، قدم رسول الله، فجئت في الناس لأنظر إلى وجهه، فلما رأيتُ وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذَّاب!». هذا يهودي لم يسبق له أن رأى النبي ﷺ، يزاحم فيمن يزاحم؛ لينظر إلى وجه هذا الذي جاء للتو من مكة، ويزعم أنه نبي، فإذا أول ما رآه في وجهه: أمارات الصدق، وهالات المؤمن الذي لا يمكن له أن يقول الكذب!
كيف للصدق أن يتحوّل من أحرف تخرج من الفم إلى نظرات تنبعث من العين، وإلى هدوء يسكن في القسمات؟
هذه هي الهيبة والمكانة التي يحتاج إليها صاحب المنصب! إنها أشياء أغلى من المواكب، والتشريفات، والمراسيم...
حتى الشجرة التي كان يخفض النبي -صلى الله عليه وسلم- رأسه إذا ما مر من تحت أغصانها، يخفض ابن عمر رأسه إن مر من موقعها بعد أن قلعت بسنوات، لأن حبيبه خفض رأسه هنا ذات يوم!
قل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.