الإجادة في العلم ترجع إلى عاملين أساسيين بعد التوفيق الإلهي: جودة القريحة، والجد والتعب. والأول أمر وهبي عمومًا، والثاني كسبي، وكلاهما محتاج إلى التوفيق الإلهي، ولكن التوفيق الإلهي المبدئي الأول المقصود به التوفيق الأخص في الإقبال على العلم وفي موارد العلم ليجيده طالبه. وهناك عوامل أخرى كثيرة لتحقيق هذا المراد، لكنها ليست أساسية، منها الفراغ، أو الجِدة والغنى، ومنها التقوى فإنها تزيد في العلم وتسهله، وهي من التوفيق الإلهي أيضًا، ولكن قد تتخلف هذه العوامل عن الإجادة في العلم، وهو في الحالة الأخيرة - التقوى وحسن الخلق - يكون تسويلًا لا يفلح صاحبه. أقول: هذان العاملان فرديان إلى حد كبير، ومن ثَمَّ يتحقق لصاحبهما من الإجادة في العلم بقطع النظر عن مشربه في العلم أو منهجه فيه، سلفيًّا أو أشعريًّا أو معتزليًّا أو شيعيًّا أو تنويريًّا أو غير ذلك. ومصاديق ذلك وأمثلته كثيرة جدا. وإذا تبين هذا، فالمقصود أن مجرد كون المرء منتسبًا لمدرسة معينة، لا يستلزم أنه مجيد في العلم، أو غير مجيد في العلم. وكم رأينا معيبًا على غيره الضعف العلمي، ولكنه هو في نفسه ليس أقوى علميًّا، بل قد يكون ضعيفًا مثله، أو أقوى منه في علم أو مجال، لكنه ضعيف من حيث التحرير والتحقيق في العلم عمومًا. وكثيرا ما ذكرت في مقالات وكتب، منها كتاب الدرس العقدي المعاصر، أن الضعف العلمي ظاهرة عامة في السلفية والأشعرية والشيعية، وغيرهم، وذكرت تطبيقات على ذلك، وأن حالات التميز العلمي عامتها فردية ترجع إلى العاملين اللذين ذكرتهما، لا لمجرد الانتساب العلمي إلى مدرسة، وأن الانتساب لمدرسة لها رموز كبار من العلماء والمحققين ليس كافيًا لأن يسري ذلك في المنتسبين بمجرد الانتساب، أو التقليد في النتائج، أو تبني البحوث، فالحال كما ترى أن عامة ذلك من باب مفاخرة الصلعاء بشعر أمها، أما عند البحث والتحقيق فزيد مثل عبيد. فأنت ما بين منهج الكلشيهات - وقد ذكرته في ما بعد السلفية والدرس العقدي والتحيز وغيرها في الإشارة إلى منهج الشعاريات غير محققة المضمون -، أو منهج: اخطف واجر، الخاليين من التحقيق في العلم، القائمين على التقليد في الدليل أو التقليد في المدلول، أو عدم ذلك أصلًا. والله يصلح الحال.
وتحسب أنك تارك للصلاة بإرادتك ولكن الله لم يعد يحب لقاءك. أفهم اللي قدامي إن الجملة دي خطأ ازاي؟
ج/ لا، بل هو تارك بإرادته، والله أمره بالصلاة وإذا أمر الله بشيء فهو يحبه، فإرادته الشرعية محبوبة له، ولو صلى ذلك التارك فقد فعل ما يحبه الله.
وما يستدل به بعضهم من قوله تعالى: ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم، فهذا نزل في المنافقين، كره الله انبعاثهم لما يصنعونه في الخروج من الفساد والفتنة، ولذا ثقل عليهم ذلك، فضحا لهم وعصمة لرسوله من أذاهم، وقد نص على ذلك المعنى الطبري وغيره، ولذا فقد أعقبها بقوله: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم.
فالحاصل أن كل معصية أو تقصير من العبد فهي بدافع هواه والشيطان، والله لم يردها منه شرعا، وكل خير يفعله الإنسان فهو بتوفيق الله.
نعم قد يخذل الله العبد ويسلبه التوفيق معاقبة له على ظلم سابق منه، ولكن هذا الظالم المخذول نفسه ليس له أن يحتج بإرادة الله الكونية على الشرعية فهذا زندقة، وليس له أن يحتج بما هو فيه من خذلان أنه ليس بإرادته ولكن بإرادة الله، لكنه ليس إلا على سبيل المجازاة لما اقترف، كما قال تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، وقال: ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد. فحتى هذا المخذول مطالب بالتوبة والإنابة والعبادة، ولو فعلها = فقد أتى ما يحبه الله.
فالحق إن حال معصيته هو الذي يكرهه الله، ولأجله يعاقبه، لا حال طاعته، فلو تاب أفجر خلق الله وأكفرهم إلى الله وأطاعه = فقد أتى ما يحبه الله، وقد دخل فيمن يحبهم الله.
(2) مولانا، كيف متشائم وميال للحزن والوحدة وعندك كل هذه الألمعية في الألش وخفة الظل والنعنشة اللي بتعملها على التايم لاين؟ سؤال محيرني عن جد، جاوب ما تترك :)
ج/ أنا لست متشائما، ومفيش فايدة عندي هي واقعية أكثر منها تشاؤم مضاد للتفاؤل.
مفيش فايدة هي أيديولوجية ورؤية كونية في آن واحد.
رؤية كونية ناتجة عن العلم والتدبر في الحال، كما قيل: "من يزدد علما يزدد وجعا"، وكما قال مالك في شرح معنى حديث: "من قال هلك الناس"، الذي لا يفهمه كثير من الوعاظ على وجهه، فقد قال إمام دار الهجرة في معناه: إذ قال ذلك تحزنا لما يرى في الناس يعني في أمر دينهم فلا أرى به بأسا وإذا قال ذلك عجبا بنفسه وتصاغرا للناس فهو المكروه الذي نهى عنه.
وكلام كثير من العلماء في وصف عصورهم بما يرونها فيها من كل شنيع وخسيس: أكثر من أن يحصر، وهذه الرؤية الكونية الواقعية لها استدلال شرعي واضح عن آخر الزمان وتناقص الخير وتعاظم الشر فيه.
ثم هو أيديولوجية، لأنه يساعد على السعادة، فأقل القليل من النجاح أو الإنجاز، بل المتوقع الطبعي منه = يسعد ويرضي، بخلاف التفاؤل في زمن المسخ هذا، فإنه أيديولوجية إحباط وتعاسة، هذا تصوري :)
إذا فهمت ذلك فلن تجد تناقضا فيما ترى، إلا تناقضا ظاهريا، أما الحقائق: فماء واحد.
جودتك العلمية تغنيك عن كثير من الانتفاخ الذي لا معنى له بالانتساب إلى شيخ أو مذهب أو مدرسة أو مؤسسة دون انتفاع حقيقي منها أو تأثير ظاهر في مستواك، بل إن مثل هذا الانتساب مع ضعفك الظاهر لا يزيدك إلا هوانًا.
لم يكن لابن سينا شيخ معروف في الفلسفة، بل اشتغل بنفسه، ولم يكن للفخر الرازي شيخ مشهور ولم يعرف بالطلب إلا قليلا على والده الذي مات وله نحو ستة عشر عاما، ثم على المجد الجيلي. وهما رأسان في الفلسفة والكلام.
هامشان: الأول: من الواضح أن المراد ليس البحث والتحقيق في فائدة الطلب على الأشياخ وأهميته، لكن أن مجرد الانتساب دون الانتفاع المؤدي إلى التحقيق لا ينفع، وأن المحك في النهاية هو ما عندك.
الثاني: بعض خصوم ابن تيمية قديما وحديثا رموه بأنه لم يكن له مشيخة، وهذا مع كونه كذبا مخالفا للواقع في عامة العلوم، إلا العلومَ العقلية فقد أخذ بعض مبادئها على شيخ ثم اشتغل بنفسه مع ما وهب من الذكاء والحفظ والتحقيق في سائر العلوم؛ فهذا كما ترى صادق على اثنين من أعظم خصومه الذين كان يعتني بالبحث معهم، وبهذا تتحقق أن الإنصاف عزيز.
قال ياقوت الحموي في ترجمة الفخر الرازي رحمه الله، وقد دخل هراة بعد موته بها بعشر سنين:
سألت ولده ضياء الله عليًّا فقلت له: على من قرأ والدك العلوم؟ فقال: ليس له شيخ مشهور، إلا أنه رحل إلى أذربيجان وكان بها رجل يقال له مجد الدين الجيلي، فقرأ عليه، ثم فتح الله عليه فتحًا كبيرًا وأخذ من الكتب.
كتب أحد العلمانيين مؤخرا منشورا ذكر فيه أن الإنسان في الغالب لا يدين بدين اختاره عن اقتناع وبعد بحث، بل بدين المنتصر عسكريا، فمثلا لولا انتصار عمرو بن العاص على البيزنطيين عسكريا ما كان غالبية المصريين مسلمين. فالمنتصر عسكريا يؤثر على الشعوب والناس، حتى ليغير دينهم! فما قولك في هذا الكلام؟
ج) لم يجبر المسلمون أحدا على اعتناق الدين، لو كان كذا لأسلم أغلب المصريين عقب الفتح، وهذا خطأ تاريخيا، فقط ظل عامة المصريين نصارى حتى القرن الثالث الهجري كما تدل كتب التواريخ. أما مطلق التأثير وإتاحة الجو لقبول الإسلام فهذه ناحية أخرى لا ننكرها أصلا، فالمقصود من الفتح في الإسلام إظهار دين الله في الأرض لئلا يحول بين الناس والدخول فيه حائل، ومن ثم فلا إشكال عندنا في كون الفتح من أسباب الإيمان، فالإسلام دين الله، ومن رحمته بالناس أن أنزل إليهم الكتاب والحديد ليهديهم بالبيان ويلجئهم بالسنان لما فيه سعادتهم، فلو أسلم خائفا فإن كان في قلبه خير فإنه سيؤمن مع الوقت، وهذا من معنى أن قوما يدخلون الجنة في السلاسل، وفي أسوأ الحالات أن تكون ذريته مؤمنة.
أنا هتسأل عن ايه بخصوص غزة يوم أما أقف قدام ربنا ؟ وأعمل ايه أكون وقتها عملت اللي عليا كمسلم ؟ ج/ ليس في يد المسلم العادي غير القادر وغير المباشر للأحداث إلا الدعاء والتأسف لمصاب المسلمين، فإن تركه لمرض قلب ونية فاسدة فهو مأثوم وقد يبلغ به النفاق الأكبر في حالات، وإن تلاهى عنه مطلقا فهو نقص في إيمانه، وإن أحيانا بعد ما يجزئ فليس بمؤاخذ، وتزيد الواجبات على القادر المباشر فيتعين عليه ما لا يتعين على غيره فالطبيب القادر المباشر يجب أن يداوي، والإعلامي والصحفي القادر يجاهد بالكلمة، والمجاهد القادر المباشر يجب عليه، والحاكم يجب عليه فعل المقدور، والمفرط في كل ذلك يأثم. هذا في الواجب، أما المستحبات فهي لا تنحصر، وهي كل نافع للمسلمين هناك بالنفس والكلمة والرأي والمال بالصدقة وبالمقاطعة ونحو ذلك من القادر عليه وبشرطه من العلم والعدل، وهذا الشرط ضروري لأن بعض من يحسب أنه يحسن قد يسيء من حيث لا يشعر، وهذا كثير، ومنه ترك الواجبات والمستحبات العينية عليه فهذا من العجز وتسويل الشيطان.
هذا "الشيخ" فلان الذي يتكلم في كبرى مسائل الشريعة فقها أو اعتقادا، كمسائل التكفير والتبديع والتفسيق، والقتل والقتال، والنوازل المركبة السياسية أو الاقتصادية وغيرها، لا يخلو أن يكون إما عالمًا وإما ليس بعالم بل من الدعاة أو الوعاظ المذكّرين. فإذا كان عالمًا، ففي أي علمٍ هو عالم؟ أفي الحديث وعلومه، أم في الفقه ومسائله، أم في أصول الفقه، أم في العقيدة والكلام، أم في التفسير؟ هل له في هذه العلوم دراسة ومشيخة وشهد له علماء محققون فيها، أم له فيها بحوث أو كتب أو دروس؟ أم عامة كلامه أشذاب من هذه العلوم في مسائل معدودة أو عموميات أو تعليقات على كتب عامة ليست من كتب مسائل العلم كفنٍّ وبحث، أو - وهذا أفضلهم طريقة - شروح ركيكة يعاني فيها شرح بعض كتب العلم التي للمبتدئين بتكلف؟ على أنه لو كان من العلماء بالمعنى الذي يجاوز ما ذكرناه من هذه الحال؛ لم يكفِ أن يتكلم في هذه المسائل، فإن رتبة ما ذُكر هي رتبة عوام العلماء والمدرسين، وليست رتبة الفقهاء المحققين المجتهدين، المطلقة أيديهم في علوم الشريعة كلًّا وجزءًا يتصرفون فيها بالاستنباط والتنزيل، مع ما تحتاجه النوازل من علم صحيح بالواقع، وبكثير من العلوم المعاصرة. وإن لم يكن هذا "الشيخ" فلان عالمًا؛ كان من الوعاظ الدعاة، أو من المثقفين أو المفكرين بالتعبير الحديث، فكيف يسوغ له الكلام في هذه المسائل التي لا يقدم على الكلام فيها إلا أفراد المجتهدين وخواص العلماء، وليس عوام العلماء فضلا عن المبتدئين الوعاظ الذين ليسوا بعلماء أصلا! إذا تصورتَ هذا التصور علمتَ أن عامة المتكلمين وكلامهم في هذه المسائل هو من الاجتراء، ومن الجهل الذي لا قيمة له في العلم، الذي لا يدل على قصور صاحبه العلمي فقط، بل وعلى أزمة أخلاقية وسلوكية عنده.
كما أن الدين الصحيح يجعل المتدين إنسانًا كاملًا، فالدين فاسد يجعل المتدين مسخًا فيه شوب من الحيوان. والفسق والفجور إذا استولى على الإنسان غيَّر فطرته، فران على قلبه رين. وكذا الدين الفاسد إذا استولى على الإنسان غير فطرته، فران على قلبه رين، ثم يقسو قلبه، كما نعى الله على أهل الكتاب. ومن هذه الجهة فالفاسق الفاجر تكون أوبته أيسر عليه، لأنه يعلم أن ما عليه باطل، أما المتدين بالدين الفاسد فتوبته عسرة لأنه يظن أن ما عليه حق، فلا يكون له داع إلى التوبة، بل قد يتصلب على ما عليه من الدين الفاسد، ويقاتل عليه، وهذا قليل في الفساق أو الفجار. الظاهرة الجديدة التي قد تصلح للدراسة في مجال علم اجتماع الدين، هو تقارب أصحاب الفجور مع أصحاب الدين الفاسد في مقابل الخصوم الدينيين لأصحاب الدين الفاسد، والذي هو عرَض لتضخم الأيدولوجيا وابتلاعها للدين بما هو إيمان مشترك وأخلاق فاضلة، ينبغي أن تجمع بين جميع المتديينين وتباعدهم من جميع الفاجرين. هذه محنة عظيمة حقيقية لم يسبق أن تعرض لها الإسلام في حدود معرفتي القاصرة.
ليس هديًا حسنًا ولا صوابًا الكلام بالمشتبه، أو الذي يتبادر منه باطل، أو يشكل على أكثر الناس أو كثير منهم، ثم يذهب المتكلم يطلب المخارج والمحامل لهذا الكلام؛ لأن الأصل أن يكون الكلام صادقًا وواضحًا؛ لأن الغرض من الكلام هو الإفهام والفائدة، وإذا كان الكلام دينيًّا كان المقصود بالفائدة ما هو أعم من الفائدة اللغوية كما هو واضح.
وفي الجملة فهذه طريقة الغلاة والباطنية وأهل الأهواء وأصحاب المذاهب السرية من ذوي الوجهين.
وإذا كان ابن مسعود رضي الله عنه قد قال: "ما أنت بمحدّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم؛ إلا كان لبعضهم فتنة"؛ وهذا في الكلام الحق، فكيف بالكلام الباطل، أو ذي الوجوه على أحسن تقدير.
نعم الإشكال أمر لابدّ من وقوعه في عامة الكلام لتفاوت أذهان الناس بلادة وذكاء، وكذا تفاوت أغراضهم، ويقع حتى في كلام الله وكلام النبي، كما قرره كثير من العلماء، لكن المطلوب أن يعتني المتكلم بهذا قدر طاقته، ويبذل فيه القصدَ الحسن، لكي لا يكون من الذين يضلون عن سبيل الله.
وفي كثير من الحالات يكون إلقاء هذا النوع من الكلام من حظ النفس بغرض الإغراب، أو الترفع عن الجمهور، أو حتى المشاكسة والمغايظة لهم، وقد يقبُح أكثر فيكون من أغراضه الترصد لهم وتقريبهم من المجاوزة والغلط في الإنكار فيتعرضون لعقاب الله بسبب ذلك، وكلها من أهواء النفس الفاسدة، والأصلُ حمل العامة وتقريبهم من السلامة.
التفصيل والتركيب من آية العلم، ولاسيما في المسائل الكبيرة المركبة ذات الجهات، وخاصة حين تنزل على وقائع معينة. وعامة الناس، وكثير منهم منتسبون إلى العلم، يرون أن المباشرة والبساطة والأقوال الساذَجة هي أمارة القول الحق، وأن التفصيل إما من مسالك المبتدعة أو هو مراوغة أو تمييع، والحال أن هذا ليس إلا ضجرًا ومللًا، والضجر ليس علمًا بل إما سوء خلق وضيق عطن أو عدم تأتٍّ ومطاوعةٍ للعلم، وكلٌّ ميسر لما خلق له. فالحاصل أن النفور من هذا ناجمٌ عن ضعف التحقيق في العلم، ثم ضعف التحقيق في الدين لأن مقتضى الورع العدل والإنصاف، والعدل لا يكون إلا بالتفصيل وبيان الجهات المختلفة. يقول الإمام النووي: "فمن استطال شيئًا من هذا وشِبْهِه؛ فهو بعيدٌ من الإتقان، مُباعِدٌ للفلاح في هذا الشأن، فليعزِّ نفسَه لسُوء حاله، وليرجِعْ عما ارتكبه من قبيح فعاله. ولا ينبغي لطالب التحقيق والتنقيح والإتقان والتدقيق أن يلتفت إلى كراهة أو سآمة ذوي البطالة وأصحاب الغباوة والمهانة والملالة، بل يفرح بما يجده من العلم مبسوطًا، وما يصادفه من القواعد والمشكلات واضحًا مضبوطًا، ويحمد الله الكريم على تيسيره".
الكلام كثير، والعلم قليل، فخذ ما تعرف لنفسك، ودع ما تنكر لنفسك، ولا تقطع على ما لا تتيقن منه، والتقليد ليس بيقين بل ولا بعلم، فالحساب عند الله يوم القيامة كما قال تعالى: (وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا).
عندما تسيطر الأهواء وتطيش العقول في كل اتجاه، لا يبقى هناك مجال للوم على من يقال له إنه من العلماء أو العقلاء أو يُتوسّم فيه ذلك. ومع هذه السيولة الرهيبة في القول، والهوى المتبع وإعجاب كل ذي رأي برأيه وإن لم يكن بأهلٍ، ومع التحزب والتفرق العظيم الذي يقاس القول على مقاسه؛ يغدو القول ولو محققًا مجرد قول بين أقوال أكثر منه وأعلى صوتًا وقبولًا ورواجًا، بل ربما يعود على صاحبه من الأذى ما لا يكافئ ما يتوخاه من المصلحة. قال شيخ الإسلام: "إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق: فبالهدى يُعرف الحق، وبدين الحق يقصد الخير ويعمل به، فلا بد من علم بالحق، وقصد له وقدرة عليه. والفتنة تضاد ذلك: فإنها تمنع معرفة الحق أو قصده أو القدرة عليه، فيكون فيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل، حتى لا يتميز لكثير من الناس أو أكثرهم / ويكون فيها من الأهواء والشهوات ما يمنع قصد الحق وإرادته، ويكون فيها من ظهور قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير. ولهذا ينكر الإنسان قلبه عند الفتنة، فيرد على القلوب ما يمنعها من معرفة الحق وقصده. ولهذا يقال: فتنة عمياء صماء. ويقال: فتن كقطع الليل المظلم، ونحو ذلك من الألفاظ التي يتبين ظهور الجهل فيها، وخفاء العلم". وقال الشيخ: "إذا اتفق من هذه الجهة شبهةٌ وشهوةٌ، ومن هذه الجهة شهوة وشبهة؛ قامت الفتنة"، وقال: "والفتنة إذا ثارت عجز الحكماء عن إطفاء نارها". وقال شيخ الإسلام: "والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، فصار الأكابر عاجزين عن إطفاء الفتنة وكفِّ أهلها. وهذا شأن الفتن كما قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}. وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله". قلت: فكيف بالفتن المتوالية التي يرقق بعضها بعضها. وقد جاء في حديث أبي ثعلبة الخشني مرفوعًا: "ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتَ شحًّا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، ورأيتَ أمرًا لا يدانِ لك به = فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام؛ فإن من ورائك أيامٍ الصبرُ فيهن على مثل قبضٍ على الجمر، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله". قلت: فأمر بالتزام خاصة النفس، وذلك يكون بكثرة العلم والتفقه، ويكون بكثرة العبادة والتزكية. والكامل من جمع بينهما، ولا يصح أحدهما من غير حظٍّ من الآخر. قال شيخ الإسلام: "فإذا قوي أهل الفجور حتى لا يبقى لهم إصغاء إلى البر، بل يؤذون الناهي لغلبة الشح والهوى والعجب؛ سقط التغيير باللسان في هذه الحال وبقي بالقلب".
السؤال: هل عبارة "اللهم انشلني من أوحال التوحيد" في ما يعرف بالصلاة "المشيشية" التي يرددها بعض الناس تقبل التأويل أم أنها صيغة محرمة؟ والله يا شيخ أنا أسأل بسبب انتشارها بين الناس في بلدنا لا سيما بين النساء وفي البيوت.
الجواب: لها ثلاثة تأويلات عندهم، أن المراد بالتوحيد ما يقع للعرفاء من توهم الاتحاد الخاص، واستدلوا على ذلك بالسياق كما سأذكر. وقيل إن المراد بالتركيب: أوحال التوحيد يعني القادحة في التوحيد لا من نفسه بل بما يضاده من الشهوات والشبهات على نمط: مبطلات الوضوء، وقوادح الإيمان ونحو ذلك. وعندي أن التأويلين ضعيفان، وأن مراده بأوحال التوحيد نفس مراد عصريه ابن عربي من أن توحيد العوام شرك لأنه في حقيقته قطع للألوهية عن سائر الموجودات إلا واحد، وأن هذا حقيقة دعوة الرسل، وأن عابد الصنم مشرك من جهة تحديده الألوهية في الصنم حسب لا من جهة عبوديته غير الله، كما نص في الفتوحات في مواضع، وفي الفصوص في الفص اللقماني وغيره، ومما يدل على ذلك في صلاة ابن مشيش شيخ الشاذلي السياق، ولذا سبقها بقوله: زج بي في بحار الأحدية، وأعقبها بقوله: وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أحس إلا بها. فثمة أحدية وثمة توحيد وثمة وحدة. فالأحدية هي بساطة الواجب، والتوحيد هو تفريد العوام للواجب بوجود متعين، والوحدة هي غاية العارف من معرفة وحدة الوجود. ومن ثم فهذا ذكر منكر محرم شركي لا يجوز التعبد به من عارف بمعناه، وينبغي التحذير منه والنهي عنه. ومن تأول معناه فهو معذور من انطباق الحكم عليه.
لا تطلب العلم عند شرس الأخلاق طويل اللسان، بل ولا تظهر الاستفادة منه، فليست الاستفادة مقصورة عليه، ولن تجد عنده من الفائدة ما لا تجده عند غيره. ولو كان عنده علم نافع لانتفع به في نفسه قبل أن ينفع غيره. وليته يكون كالأرض الأجادب التي تنفع غيرها ولا تنتفع في نفسها، لهان الخطب، بل إنه يعكّر ما معه من ماء بشراسته وسوء خلقه، وعن قريبٍ تتأثر بهذا ولا تشعر، أو على الأقل تستسيغه وتراه مقبولًا، فتصير مسخًا مثله. وعامة هؤلاء المتشيطنين المتلبسين بلباس العلم مدَّعون، يتحصنون بهذه البذاءة ليمنعوا الناس من محاققتهم في دعاويهم العريضة، أي أنهم يسوقون الهبل على الشيطنة. وكثير منهم مبتلى بالخمول أصلًا، ولو تُركوا من إثارة الجدل لزاد خمولهم ودُفنوا.