قال تعالى : ( سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ) . سورة الرعد
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :
" بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن السر والجهر عنده سواء ، وأن الاختفاء والظهور عنده أيضاً سواء ؛ لأنه يسمع السر كما يسمع الجهر، ويعلم الخفى كما يعلم الظاهر .
وقد أوضح هذا المعنى في آيات أخر ، كقوله : وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [67/13، 14] ، وقوله : وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [20/7] ، وقوله : أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [11/5]، وقوله : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ الآية [50/16] ، إلى غير ذلك من الآيات " . انتهى .
يقول الشيخ ابن عثيمين في بيان سعة علم الله: "قد أحاط بكل شيء علما، أحاط بكل شيء مما مضى، ومما هو حاضر، ومما هو مستقبل، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله عز وجل، أو بأفعال عباده، فهو محيط بها جملة وتفصيلا بعلمه الذي هو موصوف به أزلا وأبدا"
" هذا إخبار من الله بسعة علمه ، وشمول لطفه ، فقال : وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ، أي : كلها سواء لديه ، لا يخفى عليه منها خافية ، فـ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي: بما فيها من النيات والإرادات ، فكيف بالأقوال والأفعال التي تسمع وترى ؟!
ثم قال مستدلا بدليل عقلي على علمه : أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ؛ فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه ، كيف لا يعلمه وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ، الذي لطف علمه وخبره حتى أدرك السرائر والضمائر ، والخبايا والخفايا والغيوب ، وهو الذي يعلم السر وأخفى ؟! انتهى .
فعلم الله جل جلاله، متعلق بكل شيء، بالمسموع، والمبصر، والممكن، والمستحيل، والموجود، والمعدوم؛
فالله جل جلاله: وَاسِعٌ عَلِيمٌ. البقرة/115 ، والله تعالى : ( بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) البقرة/231.
قال الشيخ صالح آل الشيخ، حفظه الله: " وهذا فيه إثبات أن متعَلّق العلم هو كل شيء ، قد تقدم لك أن كلمة ( شيء ) في نصوص الكتاب والسنة أنها تفسر بأنها ( ما يصح أن يُعلم ) " وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " ما يصح أن يعلم ، سواء أكان واقعا أم لم يكن واقعا ، سواء أكان ماضيا أم كان حاضرا أم مستقبلا ، وسواء أكان مقدَّرا أم حاضرا ـ يعني غير مقدر ـ
إذن قوله " وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " هذا يشمل كل شيء ،
ولهذا استدل به أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على بطلان قول القدرية الذين يقولون إن الأمر أنُف ـ مستأنف ـ وأن الله جل جلاله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، وكذلك رُد به قول طائفة من الفلاسفة الذين يقولون إن الله يعلم الأمور الكلية دون التفصيلات والجزئيات ، كل هذا يرده قوله " وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" انتهى من "شرح العقيدة الواسطية" (143).
وهو مشتق من العِلْم، وهو ضد الجهل، فالعليم متضمن للعلم الكامل المطلق، الذي لم يُسبق بجهل، ولا يَلحقه نسيان. وقد عدَّ بعض العلماء اسم العالِم من أسماء الله تعالى، منهم البيهقي وابن العربي وابن الوزير وابن حجر وابن عثيمين وغيرهم.
معنى الاسم ودلالته في حق الله تعالى: العليم من العلم وهو نقيض الجهل، وعَلِمتُ الشيء: أي عرفته وخبرته..
فالعلم لا يقتصر على معرفة الظاهر، وإنما ينضم إليــه معرفة حقيقة الشيء.. وهذا متعذرٌ في حق العبد تجاه الله تعالى؛ لذا لا يصح أن تقول: عَلِمتُ الله وإنما تقول: عرفت الله. وشتـــان بين علمٍ مقيد محدود وعلمٍ مُطلق بلا حدود .. فسبحانه وتعالى في كمال علمه وطلاقة وصفه، فعلمه فوق علم كل ذي علم .. كما قال الله تعالى: { {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} } [يوسف:76]. فعلم الله تعالى: علمٌ بما كــــان، وما هو كــائن، وما سيــكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. أحـــاط علمه سبحانه وتعالى بجميع الأشياء ظاهرها وباطنها، دقيقها وجليلها.
اسم الله تعالى العليـــم، أشتمل على مراتب العلم الإلهي وهي أربعة:
1- علمه بالشيء قبـل كونه، وهو سر الله في خلقه، لا يعلمه ملكٌ مُقرَّب ولا نبيٌ مُرسل .. ويُسمى علم التقدير ومفتاح ما سيصير، ومن هم أهل الجنة ومن هم أهل السعير؟ فكل أمور الغيب قدرها الله في الأزل ومفتاحها عنده وحده ولم يزل.. لذلك قال تعالى { {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} } [الأنعام:59]، وقال سبحــانه { {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} } [لقمان:34].
2- علمه بالشيء وهو في اللوح المحفوظ بعد كتابته وقبل إنفاذ أمره ومشيئته. فالله عزَّ وجلَّ كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، والمخلوقات في اللوح قبل إنشائها عبارة عن كلمات .. يقول الله جلَّ وعلا: { {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} } [الحج:70] .. وقال تعالى { {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} } [الحديد:22].
3- علمه بالشيء حال كونه وتنفيذه ووقت خلقه وتصنيعه. يقول الله تعالى { {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَار . عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} } [الرعد:9،8]، وقال تعالى { {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} } [سبأ:2].
4- علمه بالشيء بعد كونه وتخليقه وإحاطته بالفعل بعد كسبه وتحقيقه. فالله عزَّ وجلَّ يعلم ما سيفعل المخلوق بعد خلقه، ويعلم تفاصيل أفعاله وخواطره وحديث نفسه، يقول تعالى { {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} } [التوبة:78]. وتلك المراتب الأربع السابقة.. ذُكِرت في قول الله جلَّ وعلا { {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} } [الأنعام:59].
فالله سبحـــانه وتعالى عـــالمٌ بكل شيءٍ في كل وقتٍ وفي كل حيـــن.
ورد الدعاء باسمه العليـــم في دعاء إبراهيم عليه السلام { {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} } [البقرة:127]. وكان النبي يفتتح صلاته بالاستعاذة بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ..
عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله إذا قام من الليل كبر ثم يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ثم يقول: لا إله إلا الله ثلاثًا، ثم يقول: الله أكبر كبيرًا ثلاثًا، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.» (رواه أبو داوود وصححه الألباني).
وسُألت عائشة رضي الله عنها: بما كان يستفتح النبي صلاته إذا قام من الليل؟، قالت: كان يقول: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة .. أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك لتهدي إلى صراط مستقيم» (رواه ابن ماجه وحسنه الألباني).
قال الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله: " والسمع المضاف إلى الله عز وجل ينقسم إلى قسمين:
1 - سمع يتعلق بالمسموعات، فيكون معناه إدراك الصوت.
2 - وسمع بمعنى الاستجابة، فيكون معناه أن الله يجيب من دعاه، لأن الدعاء صوت ينطلق من الداعي، وسمع الله دعاءه، يعني: استجاب دعاءه، وليس المراد سمعه مجرد سماع فقط، لأن هذا لا فائدة منه، بل الفائدة أن يستجيب الله الدعاء.
فالسمع الذي بمعنى إدراك الصوت ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يقصد به التأييد.
والثاني: ما يقصد به التهديد.
والثالث: ما يقصد به بيان إحاطة الله سبحانه وتعالى.
1 - أما ما يقصد به التهديد، فكقوله تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [الزخرف: 80]، وقوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران: 181].
2 - وأما ما يقصد به التأييد، فكقوله تعالى لموسى وهارون: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46]، أراد الله عز وجل أن يؤيد موسى وهارون بذكر كونه معهما يسمع ويرى، أي: يسمع ما يقولان وما يقال لهما، ويراهما ومن أرسلا إليه، وما يفعلان، وما يفعل بهما.
3 - وأما ما يقصد به بيان الإحاطة، فمثل هذه الآية، وهي: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة: 1]."انتهى، من "شرح العقيدة الواسيطة" (1/323-324).
وفي صحيح البخاري معلقا (9/117) عن عائشة رضي الله عنها قالت: " الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات" .
فالسمع متعلق بالأصوات، كما صرحت به أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، وكما هو صريح المعقول.
يقول العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي، رحمه الله:
" وكثيراً ما يقرن الله بين (السميع البصير) مثل قوله وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً 2 فكل من السمع، والبصر محيط بجميع متعلقاته الظاهرة والباطنة.
فالسميع: الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات. فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات: يسمعها، سرها وعلنها، وكأنها لديه صوت واحد، لا تختلف عليه الأصوات، ولا تخفى عليه جميع اللغات.
"تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب الحجرة وإنه ليخفي عليَّ بعض كلامها فأنزل الله قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا."