"والاعتصام افتعال من العصمة ، وهو التمسك بما يعصمك ، ويمنعك من المحذور والمخوف ، فالعصمة : الحمية ، والاعتصام : الاحتماء ، ومنه سميت القلاع : العواصم ، لمنعها وحمايتها.
ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام بالله ، والاعتصام بحبله ، ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين .
فأما الاعتصام بحبله : فإنه يعصم من الضلالة .
والاعتصام به : يعصم من الهلكة ، فإن السائر إلى الله، كالسائر على طريق نحو مقصده ، فهو محتاج إلى هداية الطريق ، والسلامة فيها ، فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له.
فالدليل: كفيل بعصمته من الضلالة، وأن يهديه إلى الطريق ، والعدةِ والقوة والسلاح التي بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها .
فالاعتصام بحبل الله: يوجب له الهداية ، واتباع الدليل .
والاعتصام بالله ، يوجب له القوة والعدة والسلاح ، والمادة التي يستلئم بها [ يستلئم بها، أي: يحتمي بها ] في طريقه .
ولهذا اختلفت عبارات السلف في الاعتصام بحبل الله ، بعد إشارتهم كلهم إلى هذا المعنى.
فقال ابن عباس : تمسكوا بدين الله.
وقال ابن مسعود : هو الجماعة ، وقال: عليكم بالجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمر به ، وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة .
وقال مجاهد وعطاء : بعهد الله ، وقال قتادة والسدي وكثير من أهل التفسير : هو القرآن ".
ثم قال : " وأما الاعتصام به فهو التوكل عليه ، والامتناع به ، والاحتماء به ، وسؤاله أن يحمي العبد ويمنعه ، ويعصمه ويدفع عنه ، فإن ثمرة الاعتصام به هو الدفع عن العبد ، والله يدافع عن الذين آمنوا ، فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كل سبب يفضي به إلى العطب ، ويحميه منه ، فيدفع عنه الشبهات والشهوات ، وكيد عدوه الظاهر والباطن ، وشر نفسه ، ويدفع عنه موجب أسباب الشر بعد انعقادها ، بحسب قوة الاعتصام به وتمكنه ، فتفقد في حقه أسباب العطب ، فيدفع عنه موجباتها ومسبباتها ، ويدفع عنه قدره بقدره ، وإرادته بإرادته ، ويعيذه به منه "، انتهى من "مدارج السالكين" (1/ 457 - 460) بتصرف
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة: تفسير ابن كثير
وقوله : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } قيل { بحبل الله } أي: بعهد الله ، كما قال في الآية بعدها : { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس } [ آل عمران : 112 ] أي بعهد وذمة وقيل : { بحبل من الله } يعني : القرآن ، كما في حديث الحارث الأعور ، عن علي مرفوعا في صفة القرآن : " هو حبل الله المتين ، وصراطه المستقيم " . وقد ورد في ذلك حديث خاص بهذا المعنى
عن [ أبي ] سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كتاب الله ، هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض " .
و عن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هذا القرآن هو حبل الله المتين ، وهو النور المبين وهو الشفاء النافع ، عصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن اتبعه " .
وروي من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك . [ وقال وكيع : حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال : قال عبد الله : إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين ، يا عبد الله ، بهذا الطريق هلم إلى الطريق ، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن ] .
وقوله : { ولا تفرقوا } أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة ، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يرضى لكم ثلاثا ، ويسخط لكم ثلاثا ، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ، ويسخط لكم ثلاثا : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال " .
وقد ضمنت لهم العصمة ، عند اتفاقهم ، من الخطأ ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضا ، وخيف عليهم الافتراق ، والاختلاف ، وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة ، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار ، وهم الذين على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
وقوله : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [ وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ] } إلى آخر الآية ، وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج ، فإنه كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية ، وعداوة شديدة وضغائن ، وإحن وذحول طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم ، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله ، متواصلين في ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى ، قال الله تعالى : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم [ إنه عزيز حكيم ] } [ الأنفال : 62 ] وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم ، فأبعدهم الله منها : أن هداهم للإيمان . وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين ، فعتب من عتب منهم لما فضل عليهم في القسمة بما أراه الله ، فخطبهم فقال : يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ؟ " كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن . وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره : أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج ، وذلك أن رجلا من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج ، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة ، فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب ، ففعل ، فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض ، وتثاوروا ، ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم ، وتواعدوا إلى الحرة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول : " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ " وتلا عليهم هذه الآية ، فندموا على ما كان منهم ، واصطلحوا وتعانقوا ، وألقوا السلاح ، رضي الله عنهم وذكر عكرمة أن ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضية الإفك . والله أعلم
وتَمسَّكوا - أيها المؤمنون - بالكتاب والسُّنَّة، ولا ترتكبوا ما يوقعكم في التفرق، واذكروا إنعام الله عليكم حين كنتم أعداءً قبل الإسلام تتقاتلون على أقل الأسباب، فجمع بين قلوبكم بالإسلام، فصرتم بفضله إخوانًا في الدين، متراحمين متناصحين، وكنتم قبل ذلك مُشْرِفين على دخول النار بكفركم، فأنجاكم الله منها بالإسلام وهداكم للإيمان. وكما بيَّن لكم الله هذا يبين لكم ما يصلح أحوالكم في الدنيا والآخرة، لتهتدوا إلى طريق الرشاد، وتسلكوا سبيل الاستقامة.
تفسير السعدي : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة
ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، ولو أدى إلى الضرر العام، ثم ذكرهم تعالى نعمته وأمرهم بذكرها فقال: { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء } يقتل بعضكم بعضا، ويأخذ بعضكم مال بعض، حتى إن القبيلة يعادي بعضهم بعضا، وأهل البلد الواحد يقع بينهم التعادي والاقتتال، وكانوا في شر عظيم، وهذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على الإسلام وتآلفت قلوبهم على الإيمان كانوا كالشخص الواحد، من تآلف قلوبهم وموالاة بعضهم لبعض، ولهذا قال: { فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار }- أي: قد استحقيتم النار ولم يبق بينكم وبينها إلا أن تموتوا فتدخلوها { فأنقذكم منها } بما مَنَّ عليكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { كذلك يبين الله لكم آياته }- أي: يوضحها ويفسرها، ويبين لكم الحق من الباطل، والهدى من الضلال { لعلكم تهتدون } بمعرفة الحق والعمل به، وفي هذه الآية ما يدل أن الله يحب من عباده أن يذكروا نعمته بقلوبهم وألسنتهم ليزدادوا شكرا له ومحبة، وليزيدهم من فضله وإحسانه، وإن من أعظم ما يذكر من نعمه نعمة الهداية إلى الإسلام، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واجتماع كلمة المسلمين وعدم تفرقها.
الشيخ محمد بن صالح العثيمين / تفسير القرآن الكريم تفسير سورة آل عمران- تفسير الآية : (( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم ... )) . حفظ ثم قال الله تعالى: (( واعتصموا بحبل الله جميعا )) هذا داخل تحت قوله: (( يا أيها الذين آمنوا )) فهي معطوفة على (( اتقوا الله )) ، (( واعتصموا بحبل الله جميعا )) هنا قال: (( واعتصموا بحل الله جميعا )) وفيما سبق قال: (( ومن يعتصم بالله )) والاعتصام بالله الاعتماد عليه والتوكل عليه والاستعانة عليه والاعتصام بحبله أي بشرعه ، فحبل الله هو شرعه ، وسمي الشرع حبلا لأنه موصل إليه ، والحبل كما تعلمون يوصل إلى المقصود فإن الإنسان إذا أراد أن يشرب من البئر أدلى الدلو بماذا ؟ بالحبل، فحبل الله هو شرعه الموصل إليه كما يقال: حبل البئر الرشى الموصل إلى الماء ليستقي منه الساقي، وأضيف إلى الله عز وجل لأمرين، الأمر الأول أنه هو الذي وضعه سبحانه وتعالى، والأمر الثاني أنه موصل إليه، وقوله: (( جمعا )) حال من الواو في (( اعتصموا )) يعني اعتصموا كلكم لا يشد احد عن هذا الاعتصام ، (( ولا تفرقوا )) لا تفرقوا في أيش؟ في حبل الله كونوا جميعا تحت المظلة الشرعية لا يشد أحد منكم ولا تفرقوا أحزابا ولا أفرادا . (( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم )) اذكروا بألسنتكم ، واذكروا بقلوبكم، الذكر بالقلب هو التذكر تذكر الإنسان حتى لو كان وحده ، لو كان وحده في بيته يتذكر الحال التي أشار الله تعالى إليها ، اذكروا أيضا بألسنتكم ثناء على الله بذلك وتحدثا بنعمته (( اذكروا نعمة الله عليكم )) والنعمة بمعنى العطاء والرزق، وهذه النعمة التي ذكر الله هنا وأمرنا أن نذكرها هي من أكبر النعم، ولهذا قال: (( إذ كنتم أعداء )) هذا محل أو بيان هذه النعمة (( إذ كنتم أعداء )) أي أن بعضكم عدو لبعض، ولاشك أنه مع العداوة لا يمكن أن تستقيم الأمة، فالعداوة كانت بينهم قبل الإسلام أزاله الله تعالى بالإسلام ، ومن ذلك ما كان بين قبائل العرب من قريش وهوازن وغيرهم، وما كان بين قبائل الأنصار بين أوس و خزرج حروب وفتن وعداوات وثأرات، شيء يعني إذا قرأه الإنسان في التاريخ يقول إن من أكبر نعم الله على العرب أن جاء بهذا الإسلام ، ولهذا ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الأنصار بذلك حين قسم غنائم حنين وكان رسول الله حكيما أعطى المؤلفة قلوبهم عطاء كثيرا حتى إنه يعطي للإنسان مائة ناقة فصار في قلوب بعض الأنصار شيء حتى إنهم قالوا وجد أصحابه فأعطاهم أو كلمة نحوها ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يجتمعوا وأن لا يدخل معهم أحد اجتمعوا فجاء إليهم وذكرهم بنعمة الله عز وجل عليهم وقال لهم : ( ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ قالوا: الله ورسوله أمن، قال: ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي ؟ قالوا: الله ورسوله أمن، قال: أما أجدكم متفرقين فجمعكم الله بي؟ قالوا: الله ورسوله أمن ) كلما قال شيئا وذكرهم به اعترفوا بأن الله ورسوله أمن، ولكنه عليه الصلاة والسلام لما ذكرهم بفضله عليهم قال: ( لو شئتم لقلتم جئتنا طريدا فآويناك ) وذكر عليه الصلاة والسلام فضلهم عليه ثم قال: ( أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار الأنصار شعار والناس دثار ) حتى جعلوا بيكون وخضبوا لحاهم بدموعهم ـ رضي الله عنهم ـ واقتنعوا اقتناعا كاملا ، الشاهد من هذا أنه ذكرهم صلوات الله وسلامه عليهم أنهم كانوا متفرقين فجمعهم الله به وألفهم به ، ولهذا يذكر الله سبحانه وتعالى هؤلاء فقال: (( إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم )) ألف يعني جمع ومنه قولنا: ألف فلان كتابا يعني جمعه ، وقوله: (( بين قلوبكم )) ولم يقل: بينكم لأن الائتلاف في القلوب ، وهذا هو الذي عليه المدار ، ليس المدار الائتلاف بالأجسام ، كم من أمة ائتلفت بأجسامها لكن قلوبها متفرقة كما قال الله تعالى عن اليهود: (( تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى )) ولا فائدة من اجتماع الأبدان مع تفرق القلوب ، الفائدة باجتماع القلوب وتآلف القلوب ولو تباعدت الأبدان ، وكم من إنسان يكون بينك وبينه مودة والصداقة وهو بعيد عنك ، وكم من إنسان بالعكس تشعر بأنه ينافقك وأنه لا يكن لك محبة ولا صداقة ومع ذلك هو كالملازم لك كملازمة الظل ، فالشأن كل الشأن بماذا ؟ في القلوب ، ولهذا قال الله تعالى: (( فألف بين قلوبكم )) ، ومن الذي يستطيع أن يؤلف بين قلوب الناس ؟ الله سبحانه وتعالى ، الله عز وجل، لا أحد يستطيع أبدا، يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم )) صحيح أن المال يؤلف ولهذا جعل الله تعالى للمؤلفة قلوبهم نصيبا من الزكاة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتي المؤلفة قلوبهم، لكن ثقوا أن ما كان مؤلفا لشيء فإنه سوف ينعدم تأليفه بأيش؟ بزال هذا الشيء وفقد هذا الشيء، لكن
الشيخ محمد بن صالح العثيمين / تفسير القرآن الكريم تفسير سورة آل عمران- تفسير الآية : (( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم ... )) . حفظ ثم قال الله تعالى: (( واعتصموا بحبل الله جميعا )) هذا داخل تحت قوله: (( يا أيها الذين آمنوا )) فهي معطوفة على (( اتقوا الله )) ، (( واعتصموا بحبل الله جميعا )) هنا قال: (( واعتصموا بحل الله جميعا )) وفيما سبق قال: (( ومن يعتصم بالله )) والاعتصام بالله الاعتماد عليه والتوكل عليه والاستعانة عليه والاعتصام بحبله أي بشرعه ، فحبل الله هو شرعه ، وسمي الشرع حبلا لأنه موصل إليه ، والحبل كما تعلمون يوصل إلى المقصود فإن الإنسان إذا أراد أن يشرب من البئر أدلى الدلو بماذا ؟ بالحبل، فحبل الله هو شرعه الموصل إليه كما يقال: حبل البئر الرشى الموصل إلى الماء ليستقي منه الساقي، وأضيف إلى الله عز وجل لأمرين، الأمر الأول أنه هو الذي وضعه سبحانه وتعالى، والأمر الثاني أنه موصل إليه، وقوله: (( جمعا )) حال من الواو في (( اعتصموا )) يعني اعتصموا كلكم لا يشد احد عن هذا الاعتصام ، (( ولا تفرقوا )) لا تفرقوا في أيش؟ في حبل الله كونوا جميعا تحت المظلة الشرعية لا يشد أحد منكم ولا تفرقوا أحزابا ولا أفرادا . (( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم )) اذكروا بألسنتكم ، واذكروا بقلوبكم، الذكر بالقلب هو التذكر تذكر الإنسان حتى لو كان وحده ، لو كان وحده في بيته يتذكر الحال التي أشار الله تعالى إليها ، اذكروا أيضا بألسنتكم ثناء على الله بذلك وتحدثا بنعمته (( اذكروا نعمة الله عليكم )) والنعمة بمعنى العطاء والرزق، وهذه النعمة التي ذكر الله هنا وأمرنا أن نذكرها هي من أكبر النعم، ولهذا قال: (( إذ كنتم أعداء )) هذا محل أو بيان هذه النعمة (( إذ كنتم أعداء )) أي أن بعضكم عدو لبعض، ولاشك أنه مع العداوة لا يمكن أن تستقيم الأمة، فالعداوة كانت بينهم قبل الإسلام أزاله الله تعالى بالإسلام ، ومن ذلك ما كان بين قبائل العرب من قريش وهوازن وغيرهم، وما كان بين قبائل الأنصار بين أوس و خزرج حروب وفتن وعداوات وثأرات، شيء يعني إذا قرأه الإنسان في التاريخ يقول إن من أكبر نعم الله على العرب أن جاء بهذا الإسلام ، ولهذا ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الأنصار بذلك حين قسم غنائم حنين وكان رسول الله حكيما أعطى المؤلفة قلوبهم عطاء كثيرا حتى إنه يعطي للإنسان مائة ناقة فصار في قلوب بعض الأنصار شيء حتى إنهم قالوا وجد أصحابه فأعطاهم أو كلمة نحوها ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يجتمعوا وأن لا يدخل معهم أحد اجتمعوا فجاء إليهم وذكرهم بنعمة الله عز وجل عليهم وقال لهم : ( ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ قالوا: الله ورسوله أمن، قال: ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي ؟ قالوا: الله ورسوله أمن، قال: أما أجدكم متفرقين فجمعكم الله بي؟ قالوا: الله ورسوله أمن ) كلما قال شيئا وذكرهم به اعترفوا بأن الله ورسوله أمن، ولكنه عليه الصلاة والسلام لما ذكرهم بفضله عليهم قال: ( لو شئتم لقلتم جئتنا طريدا فآويناك ) وذكر عليه الصلاة والسلام فضلهم عليه ثم قال: ( أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار الأنصار شعار والناس دثار ) حتى جعلوا بيكون وخضبوا لحاهم بدموعهم ـ رضي الله عنهم ـ واقتنعوا اقتناعا كاملا ، الشاهد من هذا أنه ذكرهم صلوات الله وسلامه عليهم أنهم كانوا متفرقين فجمعهم الله به وألفهم به ، ولهذا يذكر الله سبحانه وتعالى هؤلاء فقال: (( إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم )) ألف يعني جمع ومنه قولنا: ألف فلان كتابا يعني جمعه ، وقوله: (( بين قلوبكم )) ولم يقل: بينكم لأن الائتلاف في القلوب ، وهذا هو الذي عليه المدار ، ليس المدار الائتلاف بالأجسام ، كم من أمة ائتلفت بأجسامها لكن قلوبها متفرقة كما قال الله تعالى عن اليهود: (( تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى )) ولا فائدة من اجتماع الأبدان مع تفرق القلوب ، الفائدة باجتماع القلوب وتآلف القلوب ولو تباعدت الأبدان ، وكم من إنسان يكون بينك وبينه مودة والصداقة وهو بعيد عنك ، وكم من إنسان بالعكس تشعر بأنه ينافقك وأنه لا يكن لك محبة ولا صداقة ومع ذلك هو كالملازم لك كملازمة الظل ، فالشأن كل الشأن بماذا ؟ في القلوب ، ولهذا قال الله تعالى: (( فألف بين قلوبكم )) ، ومن الذي يستطيع أن يؤلف بين قلوب الناس ؟ الله سبحانه وتعالى ، الله عز وجل، لا أحد يستطيع أبدا، يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم )) صحيح أن المال يؤلف ولهذا جعل الله تعالى للمؤلفة قلوبهم نصيبا من الزكاة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتي المؤلفة قلوبهم، لكن ثقوا أن ما كان مؤلفا لشيء فإنه سوف ينعدم تأليفه بأيش؟ بزال هذا الشيء وفقد هذا الشيء، لكن