وبعد عودته إلى الإسكندرية سامه البطريرك كاهناً عام 1886م، وعيّنه واعظاً وأميناً لسرّ البطريركية، فضلاً عن كونه الوكيل البطريركي في القاهرة، فأخذ القدّيس نكتاريوس يقوم بعمله بكل جدّ ونشاط. مضت على هذه الحالة خمس سنوات، حيث سيِمَ بعدها ميتروبوليتاً على "المدن الخمس - PENDAPOLEOS"، وقد أحبّه الجميع وتعلّقوا به لتواضعه وبساطته وسعة قلبه. فقد فهم الكهنوت لا تسلّطاً وزعامة بل خدمة وتواضعاً وبذلاً للذات. وكان يصلّي إلى الربّ قائلاً: "ربّي، لماذا رفعتني إلى هذه المرتبة العالية؟ لقد طلبت منك أن أصبح لاهوتياً فقط وليس أسقفاً. منذ صباي كنت أطلب إليك أن تؤهلّني لأصير واحداً من عمالك البسطاء، أمّا أنت يا ربّ فإنك تختبرني الآن بأمور كثيرة، لكني أخضع لمشيئتك وأطلب إليك أن تجعل فيّ التواضع دائماً، وأن تغرس فيّ بذور الفضائل الأخرى، وأن تؤهّلني لأن أعيش بقية زمان حياتي حسب قول الرسول بولس الإلهي: لست أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ". ولكن للأسف، وشى به بعض الغيورين إلى البطريرك على أنّه يسعى لأن يصير بطريركاً، فصدّق البطريرك الوشاية الكاذبة وغضب على نكتاريوس وطرده خارج مصر. أما القدّيس فقد قبل ما قد حلّ به بشكرٍ ودون أيّ تذمّر واعتبره امتحاناً إلهياً. وهكذا وجد نكتاريوس نفسه مقطوعاً، مُبعَداً، مشوّه السمعة. ومنذ تلك اللحظة أضحت حياته سلسلة من المحن كأنها لا تنتهي، فلا يكاد يمرّ نهارٌ من دون شقاء ومرارة وهموم وفخاخ تُنصَب له هنا وهناك، ومؤامرات صغيرة وكبيرة تُحاك ضدّه كما لو كان إنساناً خطيراً. والحقّ أنه هكذا كان خطيراً ولكن، بوداعته وصبره. لقد لاحقه عدّوه في كل مكانٍ لاسيّما من خلال ذوي النفوس الصغيرة، وعدوّه كان إبليس، ولإبليس في العالم ألف عميل وعميل. أتى نكتاريوس إلى أثينا عام 1889م ولم يكن يملك شيئاً، لا مال ولا ممتلكات. ولحقت به الوشاية الكاذبة إلى أثينا، ووصِم اسم نكتاريوس بالعار والزنى واللاأخلاقية، فبقي سنة كاملة دون أي عمل عابرا أيامه باتكاله على الله ومعونته الإلهية. وأخيراً تمّ تعيينه في "خلكيذة" - منطقة قرب أثينا - فشكر الرب واستلم مهمّته وأخذ يعمل كعادته بكل جدّ ونشاط بالرغم من الصعوبات الكثيرة التي واجهها من خصومه والواشين به. بقي في مركزه هذا مدة سنتين ونصف، إلى أن انكشف الأمر على حقيقته عندما أرسل سكان الإسكندرية رسالة إلى أثينا يوضحون فيها محبّتهم وتعلّقهم بالقدّيس وأنّ ما لحق به لم يكن سوى وشايات كاذبة. وهكذا تغيّرت الأمور وانقلبت لصالح القدّيس، فنقلوه إلى "لاكونية" ومن ثمّ إلى "افثيوتيذة"، ومن هناك تمّ تعيينه مديراً للمدرسة الإكليريكيّة، مدرسة "روزاريو"، في أثينا، وذلك في عام 1894م. أمّا هو فكان كعادته يبذل كلّ طاقاته وجهوده كي يخدم بالطريقة الأفضل، فكان يعطي نفسه دون حسبان في سبيل الآخرين وخلاص نفوسهم. كان مديراً وأباً في الوقت ذاته ممّا جعل الطلاب يتعلقون به ويرجعون إليه في أمورهم. لقد بلغت مدرسة "روزاريو" أوجّها في أيام القدّيس نكتاريوس. بقي القدّيس مديراً للمدرسة 14 سنة، وإنّ نشاطه خلال هذه المدّة لم ينحصر في المدرسة فقط، بل كان يعِظ في كنائس عديدة في أثينا، كما كان يلجأ إليه العديد من الشبان والشابات للاسترشاد والاعتراف. وأعطى من وقته أيضاً للكتابة، فترك لنا مؤلفات مفيدة جداً. كان القدّيس نكتاريوس مثالاً لمشاركة الآخرين في آلامهم وأفراحهم. فعندما كان مديراً للمدرسة مرض الموظف المسؤول عن مهام التنظيفات، وأوصاه الأطبّاء ألاّ يعمل لفترة شهرين. لكن هذا المسكين كيف سيعيش؟ إذ لم تكن موجودة بعد التأمينات الاجتماعية لمساعدة الموظفين، فكان من الطبيعي أن يعيّنوا شخصاً آخر مكانه. لكن القدّيس قال له: "انتبه أنت إلى صحتك وكلّ الأمور سوف تتدبر". وهكذا ففي كل صباح، وقبل أن يستيقظ التلاميذ، كان ينهض القدّيس وينظف الساحات والممرات والمراحيض، دون أن يعيّن شخصاً آخر مكان ذاك، وكان يدفع الأجر المعتاد للموظف المريض. وحدث في أحد الأيام أن أتى هذا الموظف إلى المدرسة بدافع الفضول، وإذ به يشاهد القدّيس ماسكاً بالمكنسة ينظف الساحات، فبُهت ووقف متأملاً وقال له: "أأنت يا سيّدنا تنظّف عني؟ لن أقبل هذا أبداً" فقال له القدّيس: "أنت يا ولدي اذهب إلى بيتك وانتبه إلى صحتك ولا تهتم الآن بنظافة المدرسة، لأننا إن عينّا آخر سواك فسوف نخسرك، وهكذا عليّ أن أساعدك في شدّتك هذه، لكن انتبه ألاّ تقول لأحد عمّا شاهدت". أحبّ القدّيس نكتاريوس حياة الرهبنة كثيراً، فكان يؤمن أنّها العظة الأكبر للناس، وهكذا كان مسعاه أن يؤسّس ديراً ما، وقد تحقّق حلمه، إذ أنّ ثمانية بنات من أولاده الروحيّين أردن الترهّب، فأتى بهنّ إلى دير الثالوث الأقدس، الكائن في جزيرة صغيرة بالقرب من أثينا تدعى "آيينا - AIGINA". حيث أرسل في البداية ثلاثة منهن، ومن ثمّ رويداً رويداً التحقت الأُخريات بالدير. كان يتردّد عليهن من المدرسة التي يديرها من أثينا كي يرعاهن ويدبّر أمورهن الروحيّة والماديّة.