معضلة الاعتراف بالجهل..
.
.
تعلمنا من شيوخنا قديما: "كفى بالجهل ذما أن يتبرأ منه من هو فيه"، فالجهل معرة يجتهد كل أحد في التباعد منها ما وسعه ذلك، فإن كان من أهل العقل اجتهد في مباعدتها بتحصيل العلم، وإن كان من أهل الهمم الساقطة، تباعد منها بالدعوى والتظاهر، فترى الجاهلَ يلوك من الألفاظ ما لا يعقل معناه، ولا يفهم مغزاه، ويحرّك به ماضغيه في كل مقام، لعله يُنسب بفعله ذلك إلى علم أو فهم أو عقل، وأقل ما يرجوه أن يتحامى بصنيعه هذا أن ينسب إلى الجهل ويلصق بطائفة الجهلاء، وهو بهذا لا يزداد بالجهل وأحواله إلا تلبّسا.
.
وقد زادت وسائل التواصل الاجتماعي هذه الآفة انتشارا، وزادت أمرها إعضالا، لأنها أسست لتقييم جديد للإنسان، قاعدتُه أن القيمة الإنسانية مقيسة بحجم الظهور التواصلي، وهذه القاعدة الباطلة حولت المشاركة التواصلية والظهور الإعلامي إلى هدف في ذاته، وبالتالي فقد عملت على تفريغه من قيمة الكلمة التي هي المعنى والصدق والإفادة، وهكذا انتشرت التفاهة كما تنتشر السلع الرديئة في الأسواق حين يتحول البيع والشراء إلى قيم ذاتية.
.
وقد فهم الجهلاء بالحس البراغماتي الإنساني أن الاعتراف على النفس بالجهل يعني بالضرورة الامتناع من المشاركة التواصلية أو الإقلال منها، وبالتالي تضييق القيمة الإنسانية وفق قاعدة وسائل التواصل، وهكذا وقعوا في معضلة نفسية، وهي أن الاعتراف على النفس بالجهل يؤدي إلى ضمور القيمة، في حين أن القاعدة الصحيحة تجعل من الاعتراف بالجهل تصحيحا لمسار النفس نحو القيمة، وهو مسار التعلم.
.
إن الاعتراف على النفس بالجهل هو أعظم خدمة يمكن أن يقدّمها الجاهل للعلم، لأنه بذلك يفسح المجال أمام تقدم المعرفة نحو من يحتاج إليها، في حين أن مكابرة الجاهل وتدخّله في كل لحظة بالكلام والاعتراض هو تعطيل للحقيقة في مسيرها نحو الانتشار، إنه بمنزلة وضع فخاخ زائفة في طريق المسافرين، يرصدونها، ويحذرون الوقوع فيها، حتى إذا جاؤوها لم يجدوها شيئا، ولم تزدهم شيئا فوق أنها عطلتهم عن بلوغ غاياتهم.
.
أكتب هذه الكلمات وأنا أعاني من هذه الحواجز التي تنهكنا بالقفز فوقها، حين أجد على المواقع منشورا مفيدا، فأقلِّب التعليقات لأستزيد فائدة، أو أظفر برأي حسن، فإذا التعليقات كالإبل المائة المذكورة في الحديث، لا تكاد تجد فيها راحلة، كلام كثير، ورأي عليل، وفهم سقيم، وجهل فظيع، وكِبْر قبيح، فلا تكاد تقع على جوهرة من رجل عاقل حتى تتمغّر في طينة خبال الحمقى والجهلاء.
.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نقول بغير علم، أو نقيس بغير نظر، أو نتكلم بغير نية، أو نُقبِل بغير روية، أو ننقاد بشهوة ألسننا إلى شقوة أنفسنا..
#آمنت_بالله_وحده