عيادةُ حبٍّ:
دُرْنا حولَ فناءِ الجامعةِ ونحنُ نتبادلُ أطرافَ الحديثِ في الدينِ والأدبِ والحكمةِ، نسرقُ من ضجةِ المكانِ هدوءَ الفكرِ، والروحُ هيَ الروحُ تسوقُها العاطفةُ كما يقودُها العقلُ، والشمسُ في كلِّ ذلكَ تحملُ في دفءِها أثيرَ المشاعرِ على أجنحةِ الجمالِ فتنبعثُ الألسنةُ رسولَ صدقٍ منَ الضمائرِ وتتفتحُ ورودُ الشبابِ على حُبيباتِ المطرِ وضوءِ الشمسِ والخضرةِ اللطيفةِ وصخبِ الناسِ وهذا هوَ الحُبُّ هدوءٌ في ضجيجٍ وضجَّةٌ في هدوءٍ.
والإنسانُ هوَ الإنسانُ كيفَ ما تصرفَ بهِ الزمنُ وكيفَ ما انصرفَ في هذا الزمنِ إلا أن يُوجَدَ آدميٌّ من غيرِ آدم عليهِ السلامُ ، وإنَّكَ إن أصغيتَ السمعَ بقلبِكَ لتجدَنَّ في نَفَسِ كلِّ ناطقٍ وصوتِهِ ما تَطَّلِعُ من نافذتِهِ على كوامنِ روحِهِ وإن لم يُعرِبْ، وعلى مطلعِ شمسِهِ وإن حاولها على أن تغرب، فمن لم تعمَ عينُ شعورِه، أنارَ ظلمةَ ليلِ الغموضِ من قبسِ نورِه، وهذا مسلكٌ دقيقٌ لا تجري في مسالكِهِ مراكبُ الأكثرين، ولا تقصدُهُ مواكبُ السائرين، إذِ الكلُّ في خاصَّةِ نفسِهِ مُنشغِل، فضاقتِ الصدورُ عنِ الاحتمال، وانفصلَ المجتمعُ رغمَ كثرةِ مواقعِ التواصلِ والاتصال، وهذا الإنسانُ يتقهقرُ في تقدُمٍ بلا غاية، وتهبطُ إنسانيتُهُ في حضارتِهِ إلى غيرِ نهاية، ولكن يحصلُ أن ينكشفَ الحجابُ بينَ روحَينِ، وتصيبَ الكلمةُ موقعَ السرِّ فتبديهِ، كما يكشفُ الطبيبُ المَرضَ وبإذنِ ربِّهِ يشفيهِ، وإذا احتبسَ الدمُ يُستخرَجُ بالاحتجام، وإذا تلجلج الهمُّ فمشرطَهُ الكلام، وهذه حاجةُ الإنسانِ منذ قديمِ الأيام.
قلتُ: كأنَّ الجوَّ يَمْسَحُ على قلبِ عاشقَينِ. فأخذَ صديقي نَفَسًا لعلَّهُ يستبردُ به من ما أهاجَت فيهِ الكلمةُ من الوجدِ، وهكذا المحبُّ المفتتنُ بروحِ حبيبِهِ لا يشعرُ من كلماتِ الحبِّ إلا أنَّها ثوبٌ فُصِّلَ على حياتهما، وهي في قلبِهِ ملكُهُ وإن لم يُنشِئْها إذِ المعاني هيَ الحقيقةُ من وراءِ الألفاظِ، وللحبِّ ألفُ جهةٍ لا تتعددُ إلا لتكونَ الدليلَ على أنَّهُ الحبُّ كيفما ظهرَ.
فقالَ: وما الحبُّ يا صاحبي إلا أن يكونَ روحَينِ انكشفَت بينَهما السُتُرُ، فقلتُ ويحَكَ أعربَ صوتُكَ عن كثيرٍ. فقالَ: آهٍ يا صاحبي لو علمْتَ.
فقلتُ: لعلي أعلمُ إن أذنْتَ، فلا واللَّهِ ما رأيتُكَ متلجلجًا هكذا من قبلُ وكأنَّ هذا المطرَ سعيرٌ أُلقيَ على قلبِكَ وللأشياءِ قوانينُها في نظامِ الكونِ ولكن لها أحكامًا أخرى في النفوسِ فإنَّ الماءَ الذي هو سرُّ بقاءِ الحياةِ لا يكونُ عندَ أخِ الغريقِ إلا الموتَ تغصُّ بهِ الذاكرةُ حينَ يشربُ.
فخفضَ رأسَهُ واستطردَ كأنَّهُ يُكَلِّمُ نفسَهُ: لقد كانت نورًا في عتمةِ الأيامِ الحالكةِ، وبلسمًا لكلِّ مَقْتَلٍ رمَت بهِ يدُ الغدرِ، وما حسبْتُها إلا مَلَكًا تزيَّا في زيِّ إنسانٍ، ولكم كانت تُعطي من قلبِها وهي تحتاجُ إلى من يُنفِقُ عليها صرفَ الحنانِ، ولكنَّها مع ذلكَ كلِّهِ لم تحدْ عن عقلانيتِها التي عرفتُها فيها يوم أن عرفتُها إذ كانت تقودُ قلبَها بسلاسلِ الأمرِ والنهيِ متى ما بلغَ الأمرُ جدَّهُ وترخي لهُ العنانَ ليثملَ في دنيا الصبابةِ حينَ ينازعُها عنِ الانقيادِ وكأنَّها تسترضيهِ كما تفعلُ الأمُّ معَ طفلِها، ومن سنَّةِ اللَّهِ في الكونِ أن لا يجتمعَ جنونُ الحبِّ وحكمةُ العقلِ إلا أن يكونَ السلطانُ لأحدِهما فيقهرَ خصيمَهُ في دولةِ القلبِ فيسيرُ الغالبُ المغلوبَ على إرادتِهِ ويسوسُهُ على هواهُ، وقد كانَ لعقلِها حكمَهُ فيها وللحبِّ سطوتُهُ عليَّ، ومتى ما وقعَ النزالُ بينَ هذَينِ غلبَت دولةُ الأولِ ولا بُدَّ.
فقلتُ: فما كانَ من أمرِكُما؟
قالَ: كانَت تقتربُ حتى لأظنُّها ما عادت تطيقُ الفراقَ، وتنأى فأحسبُ أنَّها قد فصمت الوثاقَ، وأنا رجلٌ لا يخادعُ نفسَهُ عن دينِهِ ولا يزعزعُ الهوى ثوابتَ يقينِهِ، ولا أؤمنُ بالحبيبةِ إلا زوجةً فأردْتُها لذلكَ وقد أشرْتُ إليهِ وكانت هي في ذلك على مذهبي ولكنها أغلقتِ الطريقَ دوني إذ خشيت عليَّ منَ الاحتراقِ في أعرافِ مجتمعِها الجائرِ ولم ترضَ لي أن أخوضَ معركةً تعلمُ هي خسارتَها وقد كانت تتلذذُ بالحبِّ وتعيشُهُ بيد أنَّها لم تؤمن بسلطانِهِ فانقضى الأمرُ على ما أحبَّت وكرهْنا.
فقلتُ: وكيفَ انقضى والحالُ ما وصفْتَ؟
قالَ: قد أكسبَها تخصصُها مرونةً في التعاملِ معَ المرضى وهكذا كانَ إذ حملَتْني على المغادرةِ بلا جرحٍ وهذه آخرُ أياديها البيضِ في حياتي، وأنا أقصُّ عليكَ آخرَ الخبرِ إن أحببْتَ أن ترويَ ظمأَ تشوُّقِكَ.
فقلتُ تعالَ لنجلسَ وهاتِ فإنَّ لأمرِكَ هذا عجبًا.
قالَ: بتْنا نتحدثُ وقد أخذَنا النِقاشُ يمنَةً ويسرةً وما من شأنٍ إلا وقد ضربْنا فيهِ بسهمٍ على تفننٍ وهي في كلِّ ذلكَ تُبدي غيرةَ الحبيبةِ وعزَّةَ الأميرةِ ورحمةَ الطبيبةِ المشفقةِ وقد مرَّ أمامي اقتباسٌ قرأتُهُ عليها جاءَ فيهِ: