"لقد قرأتُ عن ذلك السجينِ الذي عُذِّبَ بتركِ الماءِ يسقطُ عليهِ قطرةً قطرةً حتى ماتَ، أتدري أظنُّ أنَّكَ قرأتَ عنهُ أيضًا وإلا لما تركتَ كلماتك تسقطُ هكذا. الكلماتُ ماءُ الروحِ الذي يجعلُها تزدهرُ وأنتَ السجَّانُ الذي يأبى إلا أن يقتلَني به."
فقالت: هذا كلامٌ مؤلمٌ، فأجبْتُ: حقيقةٌ مرَّةٌ كقهوةِ الصبحِ ولكنَّها صادقةٌ مثلُها.
قالت: حسنًا لكن دعنا ننظرُ من زاويةٍ أخرى: لمَ يأبى السجينُ أن يأخذَ الماءَ إِلَّا من سجانِهِ مع وفرتِهِ من حولِهِ؟ أتظنُّهُ يستلذُ بالموتِ هكذا؟ بل لمَ يأبى أن يتحررَ من سجنِهِ أصلًا؟
قلتُ: أظنُّهُ سيأخذُهُ متى ما وجدَ الاستعدادَ والفرصةَ، وهوَ الآنَ لم يعدْ يكترثُ لما فوقَهُ مِن قطراتِ الماءِ لأنَّهُ يُجِلُّ نفسَهُ عن أن تسيرَ في سبلٍ لا تنتمي إليهِ، وقد كانَ يَستَلِذُّ بذلك أما الآنَ فقد أدركَ أنَّ الحياةَ أجملُ منَ الموتِ طالما أنه يتنفسُ بعدُ.
فابتسمَت قائلةً: لِيَسْلَمْ على جميلِ تفكيرِهِ، ولكن عليهِ أن يتخلصَ مِن ماءِ السجَّانِ أيضًا.
قلتُ: وليسلمِ اللَّهُ ذلكَ السجنَ وأربابَهُ إذ هو جنَّةٌ لم يُقسَمْ لهُ العيشُ فيها، والسجينُ في طريقِهِ لتصفيةِ الحساباتِ مع نفسِهِ أولًا وحينَما يكونُ قد أخذَ قوَّتَهُ سيوقفُ الماءَ.
قالَت: وفقَهُ اللَّهُ في كلِّ خطوةٍ يخطوها، وما أدراكَ لعلَّها نارٌ أبعدَهُ اللَّهُ عنها.
فابتسمْتُ مجيبًا: (وَكُلُّ شَيءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) هذهِ النارُ قد تكونُ نعيمًا لأحدِهِم ذاتَ يومٍ، إذ خلقَ اللَّهُ الإنسانَ وخلقَ نظيرَهُ منه وهوَ ملاقيهِ لا محالةَ.
ثمَّ انفضَّ المجلسُ على ذلكَ وبتُّ أدوكُ ليلتي تلكَ وما أدري حينَها أأُلقيَ عليَّ من سحرِ حروفِها قبسٌ من عزيمةِ الرشدِ أم عزمت النفسُ كما زعمتُ فما صبَّحَ الصبحُ حتى كتبْتُ لها:
أظنُّهُ وقتَ الرحيلِ فلا أنسبَ من مثلِ هذا الصباحِ لذلكَ، دائمًا يأتي الصبحُ بالحقيقةِ التي يسترُها الليلُ، حيثُ تبقى للخلودِ أما الوهمُ فهوَ إلى زوالٍ، الآنَ أستطيعُ أن أقولَ كما قال السيَّابُ ( قد كانَ حُبًّا) وفي الوقتِ الراهنِ أيقنتُ أنَّ عليَّ أن أُحِبَّ شخصي فقد تألم كثيرًا وهوَ يستحقُّ أن أعطفَ عليه، ولطالما عشْنا سنينَ مغمورةً بشتى المشاعرِ الرائعةِ، فسأبقى أذكرُ الزهرَ حينما أتذكرُك، أما الزهرُ فما عاد يُذكِّرُني بشيءٍ.
وقد كُنْتِ إنسانةً في دنياي على حينِ ابتعادِ مَن حولي عن إنسانيتهم، فأشكر لكِ وجودَكِ في دنيا ألمي.
وأقولُ لكِ شيئًا لعلي لم أُخبرْكِ بهِ مِن قبلُ: أشعرُ أنَّ اللَّهَ خلقَكِ لتكوني طبيبةً او قريبةً منَ الطبِّ، وأنا أحدُ مرْضاكِ وقد تماثلْتُ اليومَ للشفاءِ فشُكْرًا يا طبيبتَنا، وإذا صحَّ المريضُ فلا يبقى للطبيبِ عندَهُ إلا الدعاءُ وهذا ما سيظلُّ لكِ عندي، أما عيادةُ قربِكِ فلا يدخلها غير المرضى وقد تعافيْتُ والحمدُ للَّهِ.
هذا آخرُ عهدِكِ بِمَرِيضِكِ وهوَ يتقدمُ لكِ بأحرِّ التهاني بِعيدٍ لن يكونَ فيه ممَّن تطلعينَ عليه، ويسألُ اللَّهَ أن يُسعدَكِ كما أَنَّكِ سعادةٌ في حياةِ مَن حولَكِ، كوني بخيرٍ.
مريضُكِ المخلص.
ثمَّ رفعَ صاحبي رأسَهُ وكأنَّهُ يخرجُ من دنيا خيالِهِ إلى دنيانا والشمسُ تختمرُ تارةً وتُسَلِّمُ تارةً فقلتُ وبمَ ردَّت؟
قالَ وهو يستعدُّ للقيامِ: بما يردُّ الطبيبُ حينَ يُشكَرُ.
#مصطفى_الكبيسي