• [ حقّ الضّلالة! ]
تبدل الأحوال وتسارع التقلبات والزوايا الحادة في الأحداث تتطلب مزيد اعتناء من المرء بقلبه ومراجعة أدقّ لمنهجه لئلا يسقط في إحدى زوايا المنعطفات الحادة. فنحن نعيش زمنًا لا يكاد المرء يلحق فيه بالأحداث، ويرى المرء فيه كثرة التقلب والتلون لدى الناس جراء التبدل السريع والتداخل المعقّد للأحداث.
ومن هذه الصور الحاضرة اليوم والتي انتجت تباينًا حادًا في موقف الرجل الواحد: الموقف من التعامل مع المحورَين الباطنيّ والصهيوصليبيّ. كما يحدث من انتقاد المجاهدين في غزّة لاصطفافهم مع المحور الباطنيّ بدعوى تكافؤ دماء المسلمين إذ لا يستقيم التطبيع مع الرافضة لأنهم "ينصرون" أهلنا في فلسطين وهم يعادون المسلمين في سوريا والعراق واليمن! وهي دعوى صادقة ونقد صحيح وموقف سليم.. ثم ترى من بعد ذلك محاولات الترويج لـ"التطبيع" مع المحور الصهيوصليبيّ عبر أذرعه المحلية المتمثلة بالأنظمة العربيّة!! وهذا تباينٌ جليّ في المواقف. فلا يستقيم بأي حال -كما كان الموقف في صورة غزّة- أن يُطبّع مع هذا المحور لأنه "ينصر" أهلنا في سوريا وهو ذات المحور الذي يعادي المسلمين في باقي البقاع كفلسطين ومصر والسودان وبل وفي سوريا ذاتها! بل لا تكاد تجد بقعة في الأرض إلا وتشتكي أذاهم وشرهم وفسادهم.
وعندما يكون المرء ممتلكًا لمبدءٍ واضح جليّ يكون حاله ورأيه أكثر رسوخًا واتساقا مع الأحداث المتعاقبة، فهو لم يتحرّج بالأمس وهو يعذر إخوانه في غزة في اختياراتهم في السياسة الشرعيّة لحالة الاضطرار التي هم فيها، وإن اعتقد خطأهم فهو لا ينزع يد النصرة والموالاة الكاملة، وهو كذلك لا يوسّع ذلك الاعذار ليشمل من تحتهم من الشخصيات البارزة والجموع التي تتبنى هذا الخطأ وتجعله صوابًا وتروّج له.. تمامًا كحاله اليوم مع المجاهدين في سوريا فهو يعذر القيادة فيما قد يراه "خطأً" ويتأول لها من باب السياسة الشرعيّة والاجتهاد في الواقع الجديد وترتيب أولويات المرحلة، ولا ينزع يد السّمع والطّاعة والموالاة، ولكن حدّ الاعذار لا يصل إلى نشر ذلك "الخطأ" وتوسيع حد الإعذار إلى المراتب الدنيا من الشخصيات والمجاميع التي تتماهى في كسر حدود البراء مع الطغاة، وتسعى إلى "تطبيع" العلاقة معهم! فحتّى الأمس كان الاعتقاد السائد أن هذه الأنظمة محاربة لله ولرسوله ﷺ وللمسلمين، لنستيقظ يوم "9 ديسمبر" فنرى ذلك الاعتقاد قد انعكس! مع أن الحذر والتحذير منها يجب أن يرتفع لتأريخ هذه الأنظمة في المعاداة والمكيدة لـ"الإسلاميين"!.. نعوذ بالله من حَورٍ بعد كَور.
ومن نظر بعين التجرّد، والمحبة لجميع المسلمين، والبراءة من جميع المجرمين تمكّن من رؤية ذلك التداخل الخاطئ بجلاء، وتوافَق مبدأه في غزّة مع مبدأه في سوريا؛ فعاملَ المسلمين في المكانَين نفس الموالاة واتخذ من المجرمين فيهما ذات البراءة، ومن وجد في رأيه بين المكانَين وفي المحورَين اختلافًا فليحذر وليراجع نفسه، (فإنّ الضّلالةَ حقّ الضّلالة أنْ تَعرِفَ ما كنتَ تُنكِر، وأنْ تُنكِرَ ما كنتَ تعرِف!).
واذكر هنا مع قمة المواجهة بين حزب اللات الرافضيّ واليهود وبعد هلاك عدوّ الله "حسن نصر الله" اشتدّ الجدل في أيهما أشدّ خطرًا بين المحورَين العدوّيَن: الباطنيّ أم الصهيوصليبيّ؟. وقد كنتُ محتارًا حينها مع ميلانٍ للعدوّ الباطني.. ومع سرعة انكسار المحور الرافضيّ في لبنان ثم في سوريا -وهو بالفعل كُسِر ولكن لم يُقْتل، فالطعنة النجلاء تكمن في العراق، ردّها الله إلى حياض الأمة عاجلًا-، تذكرتُ ترجيح الشيخ أحمد السيد للمحور الصهيوصليبيّ في الخطورة لقوة تمكّنه في الأرض عبر أذرعه السياسية والأمنية والإعلامية والاقتصادية المتوغلة في جذور الأرض عبر الأنظمة والكيانات والوسائل المتكاثرة. وقد تأكّد لي صوابية اختياره، فالمحور الباطنيّ وإن كان أنكى في القتل ولكنه أضعف في التمكين، والأحداث تدل على ذلك. فالمحور الصهيوصليبيّ مازال هو العدوّ الأصليّ والأكثر قدرةً وتربّصًا، وهو العدوّ الذي أخبرنا عنه ﷺ أنها ستُقام لأجله ملاحمٌ كبرى في آخر الزمان، مُحذّرًا أمته ومؤكّدًا لها على علو عداوة هذا المحور على غيره من الأعداء، والله أعلم.
وبعد فتح الشّام وسقوط المحور الباطنيّ فيها؛ جال في خاطري سؤال مع تذكر التضحيات الهائلة التي قدمها المسلمون في الشّام لكسر هذا المحور الرافضيّ: إذا كنا احتجنا لكل هذه الملايين من القتلى والجرحى والمشرّدين لأجل كسر المحور الرافضيّ؛ فكم نحتاج لكسر المحور الصهيوصليبيّ وهو أشدّ تمكّنًا وانتشارًا؟!!.
التفكّر في الجواب يبخّر من المخيلة أحلام الرفاه والاستقرار التي يُبشّر بها البعض بعد انكسار المحور الباطنيّ في الشّام، وأن الأرض ستظل كما كانت موعودة بالأحداث الجسام والمنعطفات الحادة؛ حينها يفطن العاقل وجوب الاعتناء بالقوّة الماديّة والإيمانيّة، وضرورة فرض التمكين الأمني والإيمانيّ في الأرض، وإبقاء عقيدة الولاء والبراء حيّة نقيّة من دنس الركون إلى الذين ظلموا، كل الذين ظلموا.
¬