العيش في الحياة الحديثة يُشبه الركض على جهاز المشي Treadmill
في جهاز المشي، أنت تركض ولكنك لا تتقدّم للأمام
وتستمر بالركض كي تبقى مكانك
ولا ينبغي أن تتوقّف عن الركض وإلا سترتطم بالأرض!
هذا التشبيه الذكي يستخدمه الفيلسوف ميشيل سار كي يصف علاقتنا كأفراد في عالم اليوم. عالم شديد التغيّر، كثير التقلّب، يتطلّب حركة مستمرة، يستنزفك باستمرار ويُدخلك دوامة الاحتراق النفسي بين الحين والآخر.
في نهاية كل سنة، يجد الإنسان نفسه مُحاصرًا أمام كل تلك المنشورات والمقاطع التي تملأ منصات التواصل الاجتماعيّ، وتخبره عمّا ينبغي فعله في العام الجديد، وعرض كل تلك الإنجازات العظيمة التي قام بها الأصدقاء في العام الفائت.
هناك العديد من المبالغات بطبيعة الحال، فمن المفترض أنك قد كبرت ونضجت وصرت تعرف أنّ:
عدم مشاهدتك لهذه الـ 5 أفلام، لم تتسبّب في خسارتك لنصف عمرك، كما قيل لك!
وقراءتك لهذه العشر كتب لم تجعلك إنسانًا أفضل بالضرورة!
وهذه الثلاث خطوات التي وجدتها في أحد المنشورات لم تغير حياتك 180 درجة!
وقد يخبرك البعض أنّها ستغيّر حياتك 360 درجة، وهذه أكثرها مصداقية، لأنك ستعود حيث بدأت.
هذا السيل العارم من التعليمات والنصائح يجعلنا ندرك تمامًا ما الذي يعنيه المفكّرون حين يصفون الإنسان المعاصر بأنّه:
ذات مُحاصَرة
Self Under Siege
إنك تشعر في نهاية كل عام بأنك إنسان محاصر، بجميع هذه الخطابات.
مُتأخّر، ولديك الكثير لتنجزه والكثير كي تسعى له في عامك الجديد، أليس كذلك؟
يسوءك أن تفوتك جميع هذه المسلسلات التي يتحدثون عنها، ويزعجك ألا تعرف تلك الرواية التي يشير إليها الجميع. وثمة حمية غذائية جديدة دارجة، يكتب الجميع عن مدى روعتها!
تصير المشكلة مضاعفة، إن كنت من قبل تعيش حياتك تائهًا، تمشي مُكبًّا على وجهك، تحيا بلا أي هدف. حينها وعندما تقرأ أحد هذه المنشورات، تأتيك رغبة مُلحّة بالبدء والمسارعة، وتشعر كما لو أنّ عليك الركض في جميع الاتّجاهات بالوقت نفسه!
من المعروف عالميًا أنّ رأس السنة هو الشهر الذي يحصد أعلى نسبة من الاشتراكات في النوادي الرياضية. إنّها نتيجة طبيعية لخطابات عديدة، تجعلك تشعر بالتقصير حيال نفسك، وتشعر بالذنب حيال نمط حياتك الذي لم تكن تجد فيه أي مشكلة بالأساس قبل قرائتك لتلك المنشورات.
لحظة!
هل التغيير للأفضل شيء خاطئ؟
ولماذا كل هذا النقد لمنشورات حسنة النوايا، تهدف لتوجيه الناس لتحسين حياتهم؟
بالطبع التغيير للأفضل مطلوب، ونصح النّاس من المعروف الذي لا يُعدَم.
لكن.. هناك خيط رفيع يفصل بين (نُصح الناس) و "ادّعاء معرفة" ما هو أصوب لهم!
وهناك خيط رفيع بين (النصائح المثبتة علميًا) و بين "التباهي" بمنجزاتك الشخصية
وهناك خيط رفيع بين (النصيحة القابلة للتعميم) و (التجارب الشخصية الناجحة) التي لا يمكن تعميمها
وثمّة خيط رفيع بين أهمّية (التغيير للأفضل) وبين "عبادة التغيير" من أجل التغيير
هذا ليس تسخيفًا من توصيات الكتب والنصائح الجيدة أو من منشورات العام الجديد
هذا تنبيه لطيف لكي تهوّن على نفسك، أنتَ إنسان، وهناك حدود لبشريتك!
وأريد أن أشير سريعًا لبعض النقاط:
1. ما يهمّ غيرك، لا يهمّك بالضرورة
ولهذا ميّز بين ما تريده، وبين ما تمّ إيهامك بأنّكَ تريده.
2. ظروفك الجيّدة ليست متاحة لجميع النّاس
ولادتك في عائلة متماسكة، وعدم إصابة شقيقتك بالسرطان، وعدم اضطرارك للعمل لساعات طويلة، وكفاية الله لك من سؤال النّاس بسبب الفقر والحاجة، كلّ هذه معطيات لم تخترها لنفسك، وإنما هي من فضل الرحيم الكريم. لذلك لا تكن لئيمًا يفرض نجاحاته الشخصية كتعليمات على الآخرين.
3. أنتَ لستَ إلهًا: لا يمكنك أن تصير كلّ ما تريده
لا يمكنك أن تسلك كل تلك المسارات التي سار بها الآخرون، لا يمكنك أن تصير الأقوى والأسرع والأجمل والأكثر سفرًا والأكثر قراءةً والأكثر تخصصًا. اختيارك لأي مسار في هذه الحياة، يقابله ثمن تدفعه في خسارة مسارات أخرى.
4. كثرة الحركة لا تعني أنّك تحرز تقدّمًا
بفعل خطابات زائفة، شاع أن يُساء النظر للاستقرار بوصفه تخلّفًا (التوقف عن الركض) لكن من المهم أن تتعلّم فنّ (الاكتفاء) أن أحدّد ما يكفيني ويهمّني في هذه الحياة، وأن تدرك أنّ الركض والتغيّر الدائم ليسا مطلوبَين لذاتهما.
5. لا تنسَ ما هي وجهتك الرئيسية
القرآن لم يقل لك: لا تنسَ نصيبك من (الآخرة)! القرآن يقول لك أن الدار الآخرة هي الهدف الرئيسي في هذه الحياة، إذا قمتَ بتثبيت هذا الهدف، حينها لا تنسَ نصيبَك من الدنيا وليس العكس! ولذلك كل خطة تضعها لنفسك لا تضع فيها الآخرة في (المركز) ولا تحسن فيها اعتبار (التقوى) فهي خطة منحرفة وإن أعجبتك.
وأدعو لك بما دعى به الكنديّ في رسالته الحيلة لدفع الأحزان:
كفاكَ الله المُهم من أمرِ دُنياك وآخرتك
كفايةً تبلُغ بها: أكمل راحة وأطيب عَيش!