بذكرى رحيله في مثل هذا اليوم
9 أغسطس 2008
الشاعر محمود درويش في بريد السماء الافتراضي
س/هل ترى الشعر منجزاً أو مُحققاً للرغبات وحدها؟
ج/الشاعر جامع مهووس للشهوات، ومستهلك سريع لها. فكثيراً ما نأخذ نحن دور هواة جمع الطوابع فيما يخص كل رغبة تتعلق بوفرة الجمال.
فالشعر كما أرى لا يشبه إلا الطاحون في أعماله، قلقهُ يلتقط ويفتتُ حتى حدود الطحن والذرى.
هذه الفلسفة الشعرية، قد تبدو غامضة في بعض الأحايين. ولكنها جزء فني لا يمكن للشاعر التخلي عنه. لأن الشاعر مستهلك أول للرغبات كونياً. وكأن أصل الرغبة شعر بالأساس.
س/ألا ترى بأن الشاعر يفعل كل ذلك لأجل التخلص من التراكم الشعري؟
ج/ الشاعر كما أعتقد، هو خلاصة شعراء وفنانين وفلاسفة وعشاق مروا على الأرض أو اخترقوا الذاكرة. إنه بالضبط، تلك التربة صاحبة الجيولوجيات المتعددة التي وإن تحمل فلزات مختلفة، لكنها تعد جوهر النار. لذلك فلا أضمن بأن كل شاعر يستطيع التخلص من التراكم الشعري للأسلاف. ثمة شعراء يعاصرونك بالقوة السلفية دون تدخل هام للحداثة في ما يكتبون. وهناك أيضاً، شعراء رؤيويون قطعوا كل مشاركة مع الماضي، منتقلين إلى المستقبل، ومغامرين بالكتابات التي لا متن لها ولا سند ماضوي.
س/الشاعر شيطاناً. . هل يوصف بمثل ذلك العنوان الأرضي في الآخرة؟
ج/ليس أشدّ كثافة من وجود الشعراء في الفراديس. لأنه كائن تنبأ. ولأنه صاحب سلسلة من التجليات والتأويلات الخارقة التي كسرت التابو الديني، وأدخلته بسباق مع رجال اللاهوت وكتّاب المذاهب، وذلك عندما تناول موضوعات ما في الجنة والنار، بما سمح للظلاميين النيل منه، باعتباره خارق لتلك الأسرار التي تعد من الخطوط الحمراء.
س/ تعني أنه من الفائزين بأكبر كتل الذنوب التي عادة ما ينالها مالكو الجرأة الزائدة؟
ج/الذنوب التي يتحدث عنها أهل الأرض هي غير المُصرح عنها هنا. ويبدو أن اللعنة قد انتزعت عن الشاعر الشيطان تماماً.
س/تعني إنك مُفرّغ من ذنوبك الآن؟
ج/هذا إذا كنت مذنباً.
س/هل تتم للشعراء عمليات تنقيح من الذنوب هنا مثلاً؟
ج/ربما. ففي هذا العالم الآخر، ثمة قوة لمنع تمدد العقل السلفي للسيطرة على طقوس الجنة، أو استعباد البشر بظلاميات التفكير التدميري في مختلف الفراديس الأخرى.
القوة تلك، تعمل ضمن مبدأ (من خرّب الأرض بسوء التأويل والتحليل الضالّ. . لا يمنح سلطة لتخريب السماء حتى لو كان وزن عمامته طناً ).
س/هذا يبعث الطمأنينة في قلوب الشعراء. ويُحسن موقفه من كل ما قيل ضدهم بواسطة النقد الديني. هل تعتقد بذلك؟
ج/ الشعر بظني محركٌ للجوهر الإنساني ورافعٌ لقيمة المخيلة في تشكيل الوجود وصناعة أدواته. وهو إن بقي حيّاً وناشطاً في مهماته المشار إليها، سيقوم ببناء عالم موازٍ لعالم الخارج في داخل الإنسان ذاته.
س/ولكنك غير ممعن بالخيالي في شعرك. فهل ذلك يعني أن قيمة الشعري اللاخيالي ستنضب سريعاً، لتتحول فيما بعد إلى تراث كتب فقط؟
ج/ثمة من يراهنون على أن شعري في غالبه العام، ليس غير بناء سياسي مغلف بالفن، وإن جمالياته سرعان ما تزول بزوال الأحداث. ربما سيحصل ذلك في بعض مفاصل شعري، ولكنه لا يُعمم على كامل تجربتي الشعرية، ذلك لأنني حاولت أن أكون حارساً للصورة وللجماليات التي يتضمنها المجاز والبلاغة والروح الفلسفية التي تقدر على أن تُبقي النار في القصيدة ملتهبةً بشكل مقنع، بحيث لا تضطرني لغتي تلك إلى الخوف على جسد الشعر من البرد.
س/وجسدك الآن؟
ج/ما زلت مريضاً. ولم يشف قلبي مما كان فيه من علل.
س/ألمْ تجد راحةً في الموت ولا في ما بعده؟! ألا يبدو الأمر عجيباً؟؟
ج/الموت ختمٌ، ما أن تُمهر به ورقتك عند نهاية الخط الفاصل في ذلك البرزخ، حتى تطير ضاحكاً، وأنت تتعقب روحك بين أكوام الغيوم.
س/هل يحدث ذلك ضمن فوضى عظيمة لمختلف الأرواح مثلاً؟
ج/لا. لا. فأرواح الشعراء، لهم خط خاص، يبدأ من برزخ اللغة وحتى محطة التيه الخاصة بقراصنة الصور وبالنبوئيين وأصحاب المخيلات المخلوعة الأبواب والنوافذ.
س/لقد اختفيت عن الأرض دون أن تكتب قصيدة النثر. هل ستراجع قرارك وتكتبها هنا؟
ج/ ربما. ولكن ليس قبل تحويل أوراقي إلى مفتي الجحيم.
(( يتبع))