وأحداث حلب، فيما أعتقد وأتصور، لا يمكن تصنيفها بـ "الأنشطة الإرهابية"، أو أن قوى وتحريضات "تركية" تقف وراءها، بل على العكس، أظن أن مماطلة النظام في دمشق هي ما تسببت في ذلك الاحتقان، وفي تعزيز تلك الحاضنة الشعبية التي استقبلت المعارضة المسلحة على هذا النحو. كذلك أعتقد أن المماطلة من قبل القيادة في دمشق في الاستجابة لمبادرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لعقد لقاء مع الرئيس السوري بشار الأسد، ساعدت على تدهور الوضع الراهن، المرشح للتدهور أكثر من ذلك.
أتمنى أن يمارس الجميع أقصى درجات ضبط النفس، وأن يحتكم الجميع إلى قرارات مجلس الأمن الدولي والشرعية الدولية ومخرجات الحوار الوطني وقرارات مجموعة أستانا، وأن يبدأ الجميع حوارات تشمل جميع فئات الشعب السوري لتفادي نشوب حرب أهلية طائفية تحرق الأخضر واليابس، وتكون نتائجها كارثية على الجميع. وأنا على ثقة أن غالبية الشعب السوري الأبي العزيز سليل الحضارات والثقافات المتنوعة والمختلفة والموغلة في عمق التاريخ، بجميع أطيافه وخلفياته وتنوع أيديولوجياته، يتوقون فعلياً للانتقال السياسي السلمي للسلطة في إطار نظام يشارك فيه الجميع، ويحترم الجميع، ويضم الجميع تحت مظلته، لإعادة بناء سوريا وعودتها لمكانتها الطبيعية بين الأمم.
وأؤكد هنا أن روسيا لا تنحاز إلى طرف على حساب أطراف أخرى، وإنما تنحاز إلى الشعب السوري وحده، وإلى إرادة الشعب المعلم الذي ضحى بدماء أبنائه، وسطر صفحات من تاريخ ناصع البياض، دفاعاً عن استقلاله وحريته وسيادته ووحدة أراضيه. وتصريحات الكرملين ووزارة الخارجية الروسية تشدد على أن سوريا للجميع وبالجميع ومن أجل الجميع، وروسيا تدعم القيادة الشرعية السورية، وقد عبرت عن قلقها بخصوص الأحداث الأخيرة، ودعت جميع الأطراف إلى العودة إلى نظام التهدئة، ووقف إطلاق النار، والجلوس الفوري إلى طاولة المفاوضات بين المعارضة والفصائل المسلحة والنظام في دمشق للبدء في ترتيب عملية الانتقال الفوري للنظام الجديد في سوريا، وهو ما يقرره السوريون بأنفسهم. وهذا هو موقف روسيا المتسق مع موقف الشرعية الدولية ممثلة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
في رأيي المتواضع أتصور أن الانتقال الفوري يمكن من خلال تشكيل هيئة انتقالية ميدانية تدير شؤون البلاد، يشارك فيها ممثلون عن النظام والمعارضة والتنظيمات المسلحة، تساعد مجموعة دول أستانا لترتيب عملية البدء بالانتقال السياسي السلمي والتعديل الدستوري والإشراف على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وأنا على يقين من أن روسيا سوف تتجاوب مع كل ما يتفق عليه السوريون لإنقاذ بلدهم وإنهاء أزمتهم.
بالطبع فإن الحل النموذجي الذي طالما دعوت له في سلسلة من المقالات السابقة هو البدء الفوري بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، والاجتماع الفوري للجنة الدستورية لإجراء تعديلات على الدستور تسمح بمشاركة جميع مكونات الشعب السوري العرقية والطائفية بشكل متساو في السلطة التنفيذية والتشريعية والقضاء، وتحديد أنظمة حكم لا مركزية في بعض المناطق تمنح للسكان حقوقهم وحرياتهم، وتسمح لهم بممارسة حياتهم ومكونات ثقافتهم بحرية ودون تمييز، وتربطهم في الوقت نفسه بسلطة الدولة المركزية. إلا أن الظروف والأحداث الراهنة المتلاحقة تتطلب تشكيل هيئة انتقالية ميدانية لوقف الاقتتال الآن وفوراً، ولا يعني ذلك أي تعد على شرعية النظام الحالي، وإنما هو مجرد مساهمة في حل الأزمة الراهنة.
أما ما يتردد الآن بشأن محاولة انقلاب في دمشق، أو إطلاق نار ببعض الأحياء، فكل تلك أخبار عارية عن الصحة، إلا أن عجز الأطراف عن الشروع فورا في عملية الانتقال السلمي يهدد باندلاع الفوضى الشاملة في سوريا، وهو أمر لو تعلمون عظيم، سيؤثر على المنطقة بأسرها.
فيما يخص مزاعم وصول الأسد إلى موسكو في "رحلة سرية"، و"عودته من رحلته السرية"، أقترح عدم الالتفات إلى وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المشبوهة، واستقاء المعلومات من الجهات الرسمية وحدها، وروسيا لا تخفي أبداً أي تعامل لها مع جميع مكونات الطيف السياسي السوري، وقطعاً لن تخفي تعاملها مع الرئيس الشرعي للبلاد بشار الأسد، ولو قدم الرئيس الأسد إلى موسكو، فسيتم استقباله بالطبع حسب تقاليد البروتوكولات الخاصة بزيارة الرؤساء.
لقد مر على اندلاع الحرب الأهلية في سوريا أكثر من ثلاثة عشر عاما، تغيّر فيها العالم، وتلوّن بألوان جديدة مختلفة، وتبدلت التوازنات ولا زالت تتبدل استعداداً لبزوغ شمس العالم الجديد متعدد الأقطاب، حيث تظهر اليوم مصالح قطاع جديد من الدول في جنوب شرق آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية فيما يسمى بـ "الجنوب العالمي"، وتبرز أدوار منظمات ومجموعات على غرار مجموعة "بريكس" ومنظمة شنغهاي للتعاون، وهو ما يجعل التعامل بنفس المعايير مع نفس الظواهر أمرا لا يواكب التطور، ولا يتفاعل مع الأحداث.