👆
(1)لمّا بدأتُ دراستي في المدرسة الشرعية في البيرة من الصف السابع، كنتُ أثناء رجوعي منها أمرّ بمكتبة الأقصى التي كانت بجوار مسجد البيرة الكبير فأشتري كتابًا بقدر ما معي من مال، ثمّ أقرؤه فور عودتي، ولا أشتري غيره إلا بعد الفراغ منه أو ادخاري ثمن كتاب جديد، ولأنّه لم يكن يوجهني أحد في القراءة كنت أندم على بعض ما أشتريه بعد قراءتي له، ومرّة حاولت إرجاع كتاب ووجدت الكراهة في وجه البائع، فخجلت ولم أحاول ذلك ثانية.
افتتحت مكتبات أخرى جديدة في رام الله أكثر تنوعًا، وصرت أزورها يوميًّا أثناء عودتي، وأنظر في عناوين الكتب متحيرًا حزينًا لعدم قدرتي على شراء ما جذبني إليه أو علمتُ قدره، فالقراءة المتصلة أخذت تهديني باستمرار إلى الكتب وموضوعاتها وعلاقتها ببعضها، وظلّ حالي على هذا المنوال حتى بعد دخولي الجامعة، وقد بات معلومًا أنني أنهيت المرحلة الأولى من الجامعة في إحدى عشرة سنة بسبب الاعتقالات وتوابعها، فبقيت لا أشتري كتابًا جديدًا إلا بعد الفراغ مما سبقه، وجمع ثمن الجديد، وهكذا تكونت نواة مكتبتي، فإذا زارني أحد وسألني السؤال المعتاد الذي يوجه لأصحاب المكتبات الكبيرة: "هل قرأتَ كلّ هذه الكتب؟!"، أجبته بثقة وصدق: "نعم"، فالمكتبة كانت صغيرة لكنها يراها كبيرة بالقياس إلى خلوّ بيوت أكثر الناس من مثلها، وكبرت كتابًا على كتاب، على طول السنين الماضية من عمري، ولم يكن ينضم الكتابُ إلى الكتابِ إلا بعد الفراغ من سابقه وجمع ثمن لاحقه.
ما عسر علي شراؤه؛ كنت أسعى إلى قراءته في المكتبات العامة وتحصيله منها، فأمرّ بمكتبة البيرة العامّة حين رجوعي من المدرسة وأمكث فيها ساعات متصلة، وفي وقت لاحق في مكتبة مسجد العين وقد صارت مفاتيحها بيدي عندما انضممت إلى شباب المسجد في ذلك الزمن القديم، ثم مكتبة مسجد البيرة الكبير بعد أن صارت عامّة، وأخيرًا مكتبة جامعة بيرزيت جلوسًا بالساعات واستعارة متكررة في أيام الشهر.
لمّا تضخمت مكتبتي بعد ذلك، لأسباب كثيرة، وصرت أشتري الكتب من المعارض في البلاد العربية، والمشاغل والهموم تتكاثر، والالتزامات تتعاظم، والوقت يمضي سريعًا، بدأت أفهم معاني جديدة لقوله تعالى: ﴿أَلهاكُمُ التَّكاثُرُ﴾، فأقف محتارًا أنظر إلى ما يتكاثر أمام عينيّ من أين أبدأ؟ وما الذي أعطيه الاهتمام الأوّل؟ ولماذا هذا الكتاب وليس هذا؟ ولاسيما أنّ اهتماماتي كثيرة وقد عجزت عن حصر نفسي في اهتمام واحد، حتى إذا زارني الأصحاب والأصدقاء، وسألوني السؤال المعتاد الذي يعرفه أصحاب المكتبات الكبيرة: "هل قرأت هذه الكتب كلّها؟!"، أجيب بما اعتاده المكثرون من اقتناء الكتب: "لا أحد يقرأ كلّ ما يشتريه، وثمّة كتب لأغراض كذا، وكتب يُرجع إليها حين كذا، وكتب هذا شأنها…"، وما عدتُ أدخل المكتبات العامّة، فما لدي يغنيني، إلا لأغراض استعارة ما يعسر وجوده من الكتب القديمة في القضية الفلسطينية، ولا أجده PDF.
بل كان حالي في الابتدائية أفضل، بعدما افتتحت مؤسسة جديدة مشروعًًا مشجعًا على القراءة، وذلك بمنح القارئ دفترًا يطابق شكله جواز السفر، يدعى جواز سفر القراءة، فإذا ختمت جميع صفحاته، والصفحة لا تُختم إلا بقراءة كتاب، ارتقى حامله إلى جواز سفر بلون مختلف يدلّ على مرحلة أعلى، فكنت أستعير الكتب وقتها من مكتبة رام الله العامّة، المشتركة في هذا المشروع، فيختبرني موظفو المكتبة فيما قرأت ويختمون الصفحة مقابل الكتاب المقروء.
ثمّ اهتديت، أي في الابتدائية، إلى مكتبة مسجدنا العمري العتيق الصغيرة، والتي لم تزد على خزانتين منخفضتي الارتفاع، فقرأت كلّ ما فيها إلا كتابي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، والمجموع شرح المهذب للإمام النووي، وقد كنت أجلس محتارًا إزاء عنوان كتاب الإمام النووي هذا وأراه عجيبًا غير مفهوم متهيبًا من محاولة قراءته، وما سوى ذلك كله قرأته، فهمته أو لم أفهمه، فأكثرها كتب في التاريخ، أو القصص القرآني أو قصص الصحابة، وبعضها في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة، ومن هناك بالمناسبة تعرفت على مروان حديد وأحداث حماة، وما سبق ذلك من محن في مصر.. الخ. ولم يكن في بيتي حينها إلا مجلات الأطفال التي اعتدت شراءها منذ تفتح وعيي، وما يُهدى إليّ في المخيمات الصيفية وحفلات تكريم المتفوقين، والقليل سوى ذلك مما اشتريته بنفسي، مثل صفوة التفاسير ومختصر تفسير ابن كثير للصابوني، فلا البيت يتسع ولا المال متوفر ولا السنّ قادر على التمييز.👇