علو في الحياة وفي الممات
بحق أنت إحدى المعجزات
فريدة من فرائد المديح والرثاء تصف علو أحدهم ..
ونتساءل هنا ما العلو المحمود؟ وما المذموم؟
نؤصل كالعادة ابتداء من نحن؟
أجسادنا من طين الأرض، وارواحنا نفخة من رب السماء..
خلقنا الله بيده ابتداء أين؟ في الأعلى.
أين أسكننا ابتداء؟ في الجنة العليا.
ولخطأ استدرجنا إليه عدونا الحسود المبغض أهبطنا إلى الأرض!
هل سنبقى فيها إلى الأبد؟ كلا. إنما هي مرحلة مؤقتة نؤدي فيها اختبار الدور الثاني: هل نخلد إلى الأرض الدنيا ونتبع شهواتها؟ أم نرتفع ونرتقي إلى بيتنا الأول الأعلى؟
ذلكم هو اختبارنا!
من نسي أصله السماوي وغفل عن وطنه الأول العلوي لن يرى أمامه سوى الأرض ليعلو فيها، وهنا تقع الحماقة الكبرى، أن يظل الإنسان مريدا للعلو في جانبه الطيني الأرضي الذي هو فندقه الطارئ الذي يوشك أن يغادره، فيكون متناقضا يطلب الأعلى في الأدنى!
تراه يحس بالنقص الشديد فيتألم باطنه، وللأسف تجده يغطي ذلك الألم بالاستكبار والفخر والخيلاء والاستعلاء المذموم!
ذلكم العلو المزيف والمغلف بأقنعة الزور والبهتان!
كلما علا ظاهرا انحدر باطنا،
كلما ارتفع في الأرض انخفض في السماء!
كلما شمخ برأسه هبط بقلبه وحقيقته!
إن إرادة العلو في الأرض طلب للشيء في غير مظانه، وركوب طائرة في البحر...
إنها حالة مضطربة قائمة على الكذب والإنكار والمكابرة وافتراض المحال!
إنه دنو وانسلاخ من المقام العلوي الحق!
وذلك وضع لا يملأ فاه صاحبه إلا التراب!
إنه كمن يواصل الشرب من الماء المالح رجاء الري، وما هو بريان.
حاله كشخص لديه مناصب عليا في مكان ولكنه يصر على نيلها في مكان آخر لا يعرفه فيه أحد.
تلك شهوة الغلبة وقهر غيرك وظلم من سواك وعقيدة( وقد أفلح اليوم من استعلى)
إنها محاولات دائبة لتعويض النقص الذي يلاحق صاحبه يقظة ومناما...
إنه صراع مستمر على السلطة والقرار،لا يبالي صاحبه بما يرتكبه في سبيل ذلك، وعليه فلا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هوى!
تلكم حالة بائسة من اللهث الحثيث حيث يلغ صاحبه ذو الحالة الكلبية في آنية الأرض هنا وهناك ملطخا لها بالنجاسات!
العلو المظهري المادي فتنة واختبار هل ستصدق أيها الآدمي تارة أخرى أنها شجرة الخلد وملك لا يبلى؟
إن عدونا استعلى بالباطل وكابر وجادل فصار سافلا طريدا مهينا أبد الآبدين ...ولا يزال في الدنيا يبذل قصارى جهده في جر أكبر عدد ممكن من الآدميين إلى علوه المذموم ورفعته الوهمية!
إنه مستمر في أداء ذات الخطة الآثمة في أن ينسي الإنسانَ الجنة،ويحصر تركيزه في (الشجرة) ... أن يلهي الآدمي عن السماء ويجعله مكبا على وجهه في الأرض!
ذلكم الاستعلاء الشيطاني الكاذب محض سراب يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا حق الحق وجد الجد تبرأ من صاحبه وقال إني بريء منك! وتلك عاقبة المستعلين بالباطل.
وهنا نتساءل مجددا: فما العلو المحمود إذًا؟؟
هنا أنخ المطايا وركز جيدا وتواضع لتعلو...
من الأعلى الأول؟
رب السموات والأرض..
أين خلقنا أول مرة؟ عنده في الملكوت الأعلى
أين أسكننا؟ في الجنة
هل أعطانا فرصة للعودة إلى هناك؟ نعم
ما سبيل ذلك؟ أن ترفع بصرك بادئ ذي بدء إلى السماء وتستذكر تاريخك العلوي المجيد متفكرا في الخلق متدبرا في الأمر :
من الذي كرمني وأعلاني أول مرة؟ الخلاق العليم... أين ؟ في الملأ الأعلى...
عندها تهفو نفسك إلى ذلكم المقام العلي، متذكرا سجود الملائكة لك، متلهفا إلى لحظاتك الجميلة في منزلك الأول هناك!
تشتاق وتشتاق وتظل تقلب وجهك في السماء ترجو قبلة ترضاها، فإذا بك تنتبه أن حبلا من السماء مده الله لك، ما عليك إلا أن تستمسك به لترقى به إلى منزلك العلوي الأصيل!
ثم ستلاحظ نفخة الروح الربانية فيك ..
تلاحظ جزءك العلوي السماوي
وتراجع فطرتك النقية الأولى ..
وعندئذ تلتقي الأنوار
نور الخلق والفطرة مع نور الوحي!
فإذا اجتمعت الأنوار أبصرت الحقائق
وعندها يقال لك : إنك أنت الأعلى!
الأعلى بأنوارك وتعلقك بالحبل الممدود من السماء
الأعلى فكرا،إذ يجول ذهنك دوما في الملأ الأعلى
والأعلى شعورا وإيمانا بربك الأعلى وكتابك الأعلى ومنهاجك الأعلى!
حينئذ لا وهن ولا حزن، ولا ضلال ولا شقاء!
إنك أنت الأعلى لارتباطك الوثيق بالملأ الأعلى والدرجات العلى والعلوم العليا .
لقد رفعك الله بآياته المنزلة من فوق، ومن رفعه الله فلا خافض له!
ألست تتلو كلامه كل ليلة؟! ذلك معناه: اقرأ وارتق! ...
إنك أيها اللبيب حال تفكرك في الخلق وتدبرك في الأمر ستشارك الكون تلقائيا في التسبيح باسم ربك الأعلى، وستُلقى ساجدا لتقترب من الأعلى كحال الكون الساجد ...
إنك لن تملك أمام ذلك العلو الرباني العظيم إلا التسبيح والسجود ...لن يسعك إلا التواضع التام لذي الجلال!