من رسالة الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة لابن رجب 2/629
فانظر إِلَى علم الإمام أحمد -رضي الله عنه- بالكتاب والسنة.
أمَّا علمه بالكتاب: فإنه -رضي الله عنه- كان شديد العناية بالقرآن وفهمه وعلومه، وكان يقول لأصحابه: قد ترك الناسُ فهم القرآن، عَلَى وجه الذم لهم.
قد جمع في القرْآن كثيرًا من الكتب، من ذلك: كتاب "الناسخ والمنسوخ"، و"المقدم والمؤخر" وجمع "التفسير الكبير"، وهو محتوٍ عَلَى كلام الصحابة والتابعين في التفسير.
وتفسيرهُ من جنس التفاسير المنقولة عن السَّلف: من تفاسير شيوخه كعبد الرزاق، ووكيع، وآدم بن أبي إياس وغيرهم. ومن تفاسير أقرانه كإسحاق وغيره، وممن بعده ممن هو عَلَى منواله كالنسائى، وابن ماجه، وعبد ابن حُميد، وابن أبي حاتم، وغيرهم من أهل الحديث. وكلُّ هؤلاء جمعوا الآثار المروية عن السَّلف في التفسير من غير زيادة كلام من عندهم.
وأمَّا علمُه رضي الله عنه بالسنة: فهذا أمرٌ اشتهر وذاع، ووقع عليه الوفاق والإجماع، وأنَّه حامل لواء السنة والحديث، وأعلم الناس في زمانه بكلام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. والتابعين.
واختص عن أقرانه من ذلك بأمور متعددة، منها: سعةُ الحفظ وكثرته، وقد قيل: إنه كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث.
ومنها: معرفةُ صحيحه من سقيمه: وذلك تارة بمعرفة الثقات من المجروحين، وإليه كانت نهاية المنتهى في علم الجرح والتعديل.
وتارة معرفة طُرق الحديث واختلافه، وهر معرفة علل الحديث.
وكان أيضاً نهايةٌ في ذلك.
وهذا وإن شاركه كثيرٌ من الحفاظ في معرفة علل الحديث المرفوعة، فلم يصل أحدٌ منهم إِلَى معرفته بعلل الآثار الموقوفة.
...
وقد رئي من فهمه وعلمه ما يقضي منه العجب، وكيف لا، ولم يكن مسألة سبق للصحابة والتابعين ومن بعدهم فيها كلامٌ؛ إلا وقد علمه وأحاط علمه به، وفهم مأخذ تلك المسألة وفقهها، وكذلك كلام عامة فقهاء الأمصار وأئمة البلدان -كما يُحيط به معرفته- كمالك، والاوزاعي، والثوري، وغيرهم.
وقد عُرض عليه عامةُ علم هؤلاء الأئمة وفتاويهم، فأجاب عنها تارة بالموافقة وتارةٌ بالمخالفة.
فإنَّ مُهنا بن يحيى الشامي عرض عليه عامةَ مسائل الأوزاعي وأصحابه، فأجاب عنها.
وجماعةٌ عرضوا عليه مسائل مالك وفتاويه من الموطأ وغيره، فأجاب عنها. وقد نقل ذلك عنه حنبلُ وغيره.
وإسحاقُ بن منصور عرض عليه عامةَ مسائل الثوري، فأجاب عنها.
وكان أولاً قد كتب كُتب أصحاب أبي حنيفة وفهمها، وفهم مآخذهم في الفقه ومداركهم، وكان قد ناظر الشافعي وجالسه مُدّة وأخذ عنه.
وشهد له الشافعيُّ رضي الله عنه تلك الشهادات العظيمة في الفقه والعلم، وأحمد مع هذا شاب لم يتكهل.