بعد كل هذا الذي مرَّ بك، تقابل بشرًا يريدون منك بكل بساطة أن ترمي وراء ظهرك الخمسمائة درس التي تعرضت لها وترنحت منها في حلبة الحياة ونزلت كثيرًا على ركبتيك، ترميها وتعاملهم فورًا بنفس الثقة التي كنت تقابل بها الوجوه الجديدة فيما مضى ونفس البراءة؛ وهذا عيب في حقك، وفي حقك تاريخك مع الصدمات، وفي حق السحجات التي تركت فيك علامات لم تزل باقية.
اختر من المواضيع التي تفتحها مع الناس ما يناسب حياتهم وظروفهم، فلا تتكلم عن خطط ضخمة، وجهات سفر، وشراء أرض، وادخارات للأبناء، مع من يجاهدون من أجل ألا يضطروا للاستدانة. لا تجعل الإنصات إليك تعبًا للناس المكافحين، ولا فتنةً للمبتلين، وهذا أضعف الإيمان في جبر الخواطر.
شجرة لا تقربها العصافير كان في عيني العجوز العانس التسعينية دمعتان، كأنها وهي في خرفها تدرك أنها خرفت، وأنها لم تستطع مقاومة الخرف الذي غافلها في الحجرة وهي تنظر من النافذة من خلف القضبان، فحبسها في الحجرة أبناء وبنات إخوانها، متمنين أن يعجل الموت إلى تلك المرأة التي ربتهم قبل أن يسخر الناس من فلتات لسانها. كانت عند النافذة منذ أسبوعين، في ساعة عصر، ساهمة في شجرة التين العجوز، التي لا تقربها العصافير أبدًا، ثم أخذت عصاها وخرجت تضرب أشباحًا حول الشجرة وهي تبكي. هؤلاء الذين التفوا حولها ليعودوا بها إلى البيت، تكدَّرت مشاعرهم تجاهها، فقد كانت تنادي على رجل لا وجود له، (خدني وراك على الفرس يا تهامي)، كانت تقول ذلك وهي تنظر نظرات شديدة الظمأ إلى طيف يمضي بين الحقول؛ وبعد أن أدخلوها حجرتها، بدأوا بحرص يتتبعون من تسموا بهذا الاسم خلال قرن، فوجدوا في أجيال مختلفة ثلاثة حفاة لا يركبون غير الحمير؛ إلى أن وصلوا للأقدم، فوجدوا معاصرًا لها لو كان حيًا لكان عمره الآن مائة سنة، هو التهامي الوحيد الذي ركب الفرس، شابً بهي وسيم متأنق قوي، كان يعيش في البلد في الزمن الماضي، ومات بعد عرسه بثلاثة أشهر. كان في المولد بثوبه الأخضر الهفهاف، وطاقيته الشبيكة، واقفًا عند لعبة المدفع، رمي في فمه حبات سكر النبات وأخذ يجرشها، ابتسامته كشفت أسنانه البيضاء الناصعة، وسنته الذهبية المتألقة، وأشار للغجري ليضع طارة حديد إضافية، وشمر كميه، ونفخ في كفيه، وأخذ يزيح ويسحب المدفع على المجرى ليجمع عزمه، إلى أن دفعه بقوة وأطلقه من قبضته القوية، ليرتطم بالقائم، ليصيح المتفرجين، وبينهم أعين حاسدة كانت تلتهمه. في تلك اللحظات الكاملة التي يبدو فيها الموت بعيدًا جدًا، والتي يسبح فيها الصوفيون على أطراف المولد في فيوضات الأنوار الناعسة للفوانيس المطلية بلون الكهرمان، التي قلَّبت فيما قلبت أوجاع العشَّاق الذين تخلَّى عنهم خلانهم الذين كانوا معهم في المولد الماضي وهم أتوا الليلة يمضغون مواجيدهم مع صوت الناي، في تلك اللحظات أخذه الخدر والانجذاب، إلى عيني كلب هادئ بشكل خبيث، كانت عيناه في بحر الكهرمان كجذوتين مهتزتين وسط الظلام ترسلان وميضهما من بعيد. بغتةً عضَّه الكلب واختفى كما لو كان وهمًا، واجتمع الناس على الشاب الذي صرخ صرخة واحدة. عاش بعدها حائرًا في لعابه المستمر، وشعره الذي أخذ في التساقط، يستجدي بعينيه حلًا من زحام زوَّار لا حول لهم ولا قوة، إلى أن أصابته حالة هيجان اضطرت أهله لربطه في شجرة التين الشابة من يديه وجذعه، تحت عينيها الذاهلتين الحائرتين، تقاسمه أوجاعه المستبدة وهو لا يدري عنها شيئًا، حتى مات بعد أن طرد صراخه العصافير منها للأبد. لقد أخرج الخرف من القاع السحيق لبئر الأيام البعيدة حبًا قديمًا صامتًا له، حبًا لم يلفت انتباهه، مر عليه ثمانون عامًا؛ انتشل الصبوة المكبوتة، والدموع المحبوسة ليلة إصابته، ونهار موته، لفتاة من خلف النافذة وقضبانها الحديد، تنظر إلى فتى البلد يمر كالحلم فوق فرسه، ساربًا في حقول النهار.
وأنا الآن لا أحب لنفسي أن أتجه ناحية إنسان فيقول في نفسه ما الذي أتى به، ولا أحب لنفسي أن أحرص على لقاء أحد له قدر من الوجاهة أو الشهرة ولو من باب المحبة، إن ظننت أنه سيقول في نفسه إن هذا حريص على أن يلقاني ويلتقط الصور معي، وأنا الآن إن عطشت في طريقي عند بلد بها رجل لو طلبت منه الكوب لجاء في خاطره أنني أبحث عن حجة كي ألتقيه، وأكون محسوبًا عليه في عيون الناس، بل لو عطشت وأنا عند باب بيته، لاخترت أن أنحني على جدول ماء يعلوه القذى وأشرب منه وأكمل سيري. هذا أنا الآن، لا ميل عندي لمن لا يميل لي؛ والسلام.
أي إنسان أذل نفسه للناس لن يحبك. أي إنسان فقره بين عينيه لن يحبك. أي إنسان يطاطئ للريح وغير الريح لن يحبك. أي إنسان يبحث عمن يشتريه لن يحبك. أي إنسان سقطت منه رجولته في حادثة ما لن يحبك. وأجمل ما فيك أنك كنت مشغولا بما آمنت به، وما عشت له، وتركت لنا فتات الحباب والكراهية
إذا كان إنسان ما يعاملك بقدر من الجفاء أو عدم التقدير أو الاستخفاف، وجاءت لحظة تتفرق فيها الوجوه، بسبب السفر أو بأي سبب آخر، قد تدفعك الطيبة الزائدة لأن تجعل الوداع ثريًا بالعاطفة، أن تهتم به وتحتضنه، أن تترك له أي ذكرى منك يحتفظ بها، أن توصّله بسيارتك، كأنك تعاتبه بطريقة ما على أنه لم يقدر نوازعك الإنسانية؛ وأنا أنصحك ألا تفعل، رغم أن هذا يبدو من السماحة وكرم الأخلاق، ذلك لأن الذي لم يقدرك وأنت في وجهه لن يقدرك وأنت بعيد عنه، وسيرجو أن آخرًا يقوم بتوصيله. ويحضرني في هذا المقام قول رجل بدوي سعودي، بدت لي كلماته بسيطة جدًا، لكن بعد أن سمعتها وتأملت فيها وجدتها عظيمة، قال الرجل: أنا أحب الإبل، وذلك لأن الجمل كبير عند نفسه، يحب من يحسن معاملته، ولا يحب من لا يحسن معاملته، ولا يسأل عمن لا يسأل عنه، هكذا بكل بساطة، وليس فيه شيمة بعض المخلوقات وبعض البشر من التمسح فيمن لا يريدونهم ومحاولة استدرار عواطفهم، ولا يحاول أن يفهم لماذا لا يحبه من لا يحبه.
الإنسان ليس فقط بما استطاع الوصول إليه، بل أيضًا بما استطاع تجاوزه. الإنسان ليس فقط بما يمكن أن يتباهى به، بل أيضًا بما يمكن أن يستره من نقص فيه واحتياجات لم يستطع إشباعها. الإنسان ليس فقط بما استطاع الحصول عليه، بل أيضًا بما استطاع التخلص منه.
ماذا يجني إنسان من حبك إذا كانت طريقتك في الحب تشبه طريقة الآخرين في الكراهية؟ ماذا يجني إنسان من حبك إذا كنت تؤذيه، وتتطاول عليه، وتشعره بمناسبة وغير مناسبة أنه ينقصه الكثير، وتقلل من قيمة الأشياء التي قدر عليها وفعلها من أجلك، وتجعله في حيرة كيف يتقي انتقاداتك مهما صنع؟
الأشياء التي راحت إليها كل نفسك ولكنها تباعدت عنك. البشر الذين أعطيتهم قدرا كافيا من الود والمحبة ولكنهم غافلوك. الطرق التي مضيت فيها متفائلا ولم تجد في نهايتها ما تريد. الفرص التي حلمت بها ولكنها راحت لغيرك. هذه ليست إهانات تعرضت لها، ولا عذاب متلاحق نزل بك، إنما هي أمطار تنزل على التفوس تغسلها من أدران التعلق بالدنيا والأماني، وتشفيها من ميلها للفخر والاختيال.
نحن لسنا بحاجة إلى مهووس بنا، ولا بحاجة إلى أحد ينزل على ركبته وهو يطلب رفقتنا للأبد، نحن بحاجة إلى إنسان يحمينا أكثر مما يحاكمنا، ويصعد بنا أكثر مما يصرخ علينا من أعلى، بحاجة إلى إنسان لا يخدش اعتزازنا بأنفسنا، ويضع اللبنات التي نقصت في بنياننا، ويساعدنا على أن يخرج منا أجمل ما فينا وما لم نكن نتوقعه من أنفسنا على الإطلاق، نحن بحاجة إلى إنسان نتفق معه على عادات جميلة نرعاها معًا، حتى يصير هو نفسه أجمل عاداتنا.
الذي لا يعطي كلامك الاهتمام الكافي، لا تقل له إلا الكلام المهم. الأخذ والرد والأحاديث اللطيفة تكون بين خليلين، فإن لم ينزلك أحدهم هذه المنزلة فلا بأس واجعل كلامك معه على قدر الحاجة. بعد فترة ستجد لهذا أثرًا طيبًا في نفسك، يشبه تقليب التربة الزراعية وتهويتها.