View in Telegram
ذهب المُفكّر الهنديّ المسلم وحيد الدّين خان، إلى أنّ التعطّش الفِطريّ للعدل لدى البشر، ما هو إلّا دليل طبيعي على وجود اليوم الآخِر (يوم الفصل، اليوم الذي تُرَد فيه المظالِم لأصحابها). تمامًا كما أنّ الظمأ إلى الماء شعور فطري يُولَد مع جميع الكائنات الحيّة دون سابقة تعلّم و دون اكتساب خارجيّ وإنّما هو شعور ذاتي نابع من الداخل. بهذا المعنى الفلسفي، فإنّ الظمأ إلى الماء، دليل على وجود الماء، حتى وإن لم نكن قد وجدنا الماء بعد. حين تعطش الحيوانات تهيم في الصحراء بحثًا عن سائل عذب يدعى "الماء"، لا تعرفه ولا تعرف خصائصه لكنّها تعرف أنها بحاجته. وكذلك العدل في الحياة الدنيا، لا يتحقّق دائمًا، يتعطّش له البشر، يرون بعض شواهده ويرونه غائبًا في كثير من الأحيان، ولكنهم يحسّون بوجوده المُطلَق في مكانٍ ما، ينتظرون حدوثه أو مجيئه، يتعطّشون له ويتطلّعون إليه في كل زمان وكل مكان. فكرة عبقرية مفادها أنّ البشر دائمًا يشعرون أنّ الحكاية لم تنتهِ بعد، إذ ثمّة مظلومين ماتوا ولم يقتصّوا من ظُلّامهم، وثمّة أسرى ماتوا في أقبية السجون المُظلمة تحت الأرض ولمّا يشاهدوا مُعذّبيهم وهُم يتعذّبون ويتألّمون كما فعلوا بهم بغير وجه حق. ثمّة صرخات لم يسمعها أحد، وحكايا من الظلم والقهر لم يعرف عنها أحد. هناك أصحاب الأخدود في سورة البروج، ماتوا حرقًا في بطن الأرض، والقرآن لا يخبرنا شيئًا عن ملكهم الظالم والاقتصاص منه في الحياة الدنيا، ولكنّ ثمّة آخرة، يحكم فيها عالم الغيب والشهادة بحكمه البليغ وعقابه الشديد. ومن الدراسات العلمية المثيرة للغاية في حقل (علم نفس الأخلاق) والتي أجراها فريق بحثي في جامعة Yale المرموقة، والذي ترأسّه عالم النفس الشهير بول بلوم، حيث وجدت الدراسة أنّ الأطفال منذ ولادتهم، يُولَدون فطريًا منحازين لتفضيلات أخلاقية واضحة منذ عمر 3 شهور!! لقيم أخلاقية مثل العدل والرحمة. وهناك تفاصيل لطيفة للطريقة التي جرى بها تنفيذ الدراسة عبر عرض مشاهد تمثيلية للأطفال الرضّع، يتعرّض فيها أحد المجسّمات للظلم من قبل مُجسّم آخر، ثمّ يأتي مُجسّم ثالث لاحقًا يقوم بعقاب المجسّم (الظالم) بسبب الظلم الذي أوقعه. وقد وُجد أنّ الأطفال يختارون المجسّم الذي قام بالاقتصاص من الظالم ويفضّلونه على جميع الأجسام الأخرى. إنّ الفرح لمشاهد تحرير السجناء، والاقتصاص من المجرمين، هذا شعور فطري أصيل، يتّسق مع كلّ نفس حرّة، تعرف الظلم وتعرف بطلانه، وتعرف أنّه لا ينبغي أن يدوم، وأنّ لهذا الوجود، يوم تُوضع فيه الموازين القسط، فلا تُظلَم نفسٌ شيئًا. أقول هذا لأنّ من الّلوثات الإدراكية التي أحلّها الخطاب الاستعماري والخطاب الغربي في العالَم، تقديس السلام على حساب المظالم، وتعظيم التسامح على حساب الحقوق، وذمّ الغضب أو القتال بالمطلق. وأحد الفروقات الأساسية بين التصوّر الإسلامي للإنسان، وبين علم النفس الغربيّ: مفهوم (الغضب) Anger في المنظور الغربي، الغضب دائمًا مذموم، وسيخبرك الأطبّاء النفسيون والمعالجون عن ضرورة ترويض الغضب، وضرورة إدارة الغضب Anger Management وكلّ تلك النماذج العلاجية للتخلّص من الغضب. أمّا في التصوّر الإسلامي، فالغضب، مذموم في أحيان كثيرة (لا تغضب، ليس الشديد بالصّرعة)، ولكنّه مشروع في أحيان أخرى، إنّه شعور بشري أصيل تعترف به المنظومة الإسلامية (أتعجبون من غيرة سعد؟) والغضب لانتهاك محارم الله. وقد اعتبر القرآن اعتبارًا سيكولوجيًا نوعيًا في مشروعية القتال حين قال (ويشفِ صدورَ قومٍ مؤمنين) ومن أسماء الله عزّ وجلّ (المنتقم) ومن صفاته أنّه عزيز ذو انتقام. والمشكلة الأساسية في الخطاب الغربي المتمركز حول (نبذ الغضب) أنّه يُغفل الفروقات السلطوية في الخلافات بين البشر، إنه يفترض أنّ أي خلاف هو خلاف أفقي يجب أن يُحلّ بالتواصل والتفاهم. مع أنّ واقع الحال يشهد أنّ البشر يُوقعون الظلم ببعضهم من موقعيات مختلفة، هي في غالبها ظلم يقع من طرف أقوى على طرف أضعف، ومن طرف متمكّن على طرف مستضعف، ومن طرف شديد الدهاء على طرف شديد السذاجة، وهي كلّها أشكال لا تُبرّر ولا تُحلّ بالتفاهم فقط، وإنما تحتاج أولًا لإحقاق الحق وردّ المظالم لأصحابها. وهذه بالمناسبة واحدة من الخلافات الأساسية بين (علم النفس التحرّري) و (علم النفس الغربي). ويرى باولو فريري المُعلّم والفيلسوف البرازيلي أنّ (الغضب المشروع) و (الأمل النقدي) أهم عناصر التحرر من الأوضاع القهرية. بهذا المعنى، فإنّي كإنسان: لديّ الحقّ في أن أكون غاضبًا ولديّ الحقّ في التعبير عن غضبي ويبنغي أن أوظّف هذا الغضب كأساس وباعث لإحقاق الحق والتغيير الأخلاقي الفطرة السليمة تستاء من الظلم وتشعر بالإهانة الشخصية إذا تعرّض أيّ إنسان على وجه الأرض للظلم وقد جاء في الحديث القدسيّ: يا عبادي! إنّي حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم مُحرّمًا.. فلا تظالموا!
Love Center - Dating, Friends & Matches, NY, LA, Dubai, Global
Love Center - Dating, Friends & Matches, NY, LA, Dubai, Global
Find friends or serious relationships easily