إنّ الذي فرض عليكَ القرآن.. لرادّك إلى مَعاد
من الأساليب العلاجية المعمول بها في العلاج النفسي وقت الأزمات والشدائد، أن تُعين مَن أصابه الجزع والخوف ممّا هو قادم أو ما سيجيء، على استحضار سابقة يقينية واضحة يعرفها في نفسه لمواجهة القادم المجهول والمُرعب.
تُسمّى هذه العملية في العلاج النفسي المعرفي بإعادة البناء الإدراكي Cognitive Restructuring ومن تطبيقاتها أن تبحث عن التجارب السابقة الناجحة واليقينية ومصادر القوّة التي امتلكها الإنسان سابقًا في حياته، واسترجاعها لتوكيد القدرة على تخطّي ما يستجدّ الآن من أزمات ومخاطر.
كان الرسول ﷺ خارجًا من مكّة، يطارده قومه، بعدما استنفذ الوسع في تبليغ قومه، وأُذن له بالهجرة.
كانت لحظة تاريخية "معقّدة" إن صحّ التعبير، تختلط فيها المشاعر والأفكار.. أن تخرج من بلادك مُطارَدًا مهمومًا، يحزنك قومك الذين تخلّوا عن فرصة عظيمة، فرصة إنقاذهم لأنفسهم في الدنيا والآخرة، يحزنك الأذى الذي يُلاحق أتباعك ولا تعرف مصيرهم، تجتاحك هواجس كثيرة ممّا سيكون، من نجاح درب الهجرة نفسه، من الوصول، ممّا بعد الوصول..
ليس معه إلّا الصدّيق، يطاردهم سُراقَة بن مالك يتقصّى أثرهم، تطلبه قريش، جادّة هذه المرّة وقد عزمت الأمر على أن تُنهي هذا المشروع مرّة واحدة وللأبد.
أنتَ الآن عزيزي القارئ، تعرف نهاية القصّة، مطمئن لنتيجة الأحداث، لكنّك لم تكن لتعرف ذلك لو كنت تعيش من داخل تلك الّلحظة التاريخية، وأنتَ أسير الحاضر، قاصر المعرفة، يُحيط بك "الغيب" من كلّ مكان، تقفز لاستنتاجات الخسارة والانهيار (كما تفعل الآن وأنت تراقب ما يجري) يبتلعك "الآن" ومجرياته وينهشك ما سيكون ومآلاته.
لو كنّا أبناء تلك اللحظة التاريخية، ببشريتنا وكامل قصورنا الإدراكي عن معرفة المستقبل وأحداثه، سنظنّ أنّها نهاية كلّ شيء، آلام مهدورة، ومعاناة لم تتوّج بنجاح الدعوة، وقناعات بعدم جدوى الدعوة المكّية بالأساس، دعوة قوم لم يؤمنوا بنهاية المطاف (حتّى تلك الّلحظة).
أتى جبريل عليه السلام الرسول ﷺ في منطقة ما بين مكّة والمدينة، هي "الجحفة" كما يذهب لذلك المفسّرون ومؤرّخو السيرة، وضمن سياق رقيق في سورة القصّص يستقرّ في نفس الرسول ﷺ تدبير اللطيف الخبير لموسى، يصنعه الربّ على عينه في قصر فرعون.
المفارقة الأساسية هنا، أنّ الله لم يصنع موسى في مكان آمن أو بعيد عن الأنظار، بل صنعه في قلب الحصن الفرعونيّ، كان موسى يتجهّز تمامًا حيث كانوا يحذرون! نعم حيث يحذرون وليس حيث ما لا يحذرون، صنعه القاهر فوق عباده أمام أعينهم، حيث يلقون بأبصارهم وأجهزتهم لإقصاء أي احتمال ولو صغير يتهدّد القصر الفرعونيّ.
القصص القرآني هنا ليس أرشيفًا لأحداث تاريخية سالفة ولا هو حكايا يستأنس بها النّاس قبل النّوم، وليست هروبًا من بؤس الواقع نحو رحابة الماضي، وإنّما كان لهذه القصص طابع إيماني خاصّ، يمنح الرسول شواهد يقينية مماثلة:
وعدنا أم موسى في لحظة يأس وأسى، وأعدنا لها ابنها كي تقرّ عينها
ووعدنا موسى وهو طريد، وأعدناه إلى مصر سيّد قومه يزلزل قصر واحدة من أكبر الحضارات في التاريخ
ثمّ قال له: (إنّ الذي فرض عليكَ القرآن) أعطاه المقدّمة الصلبة التي لا شكّ فيها.. هذا اليقينيّ الذي بين يديك، بفرائضه وأحكامه وشرائعه التي ألزمك إيّاها وقومك!
هل ترى هذا اليقيني الذي أُنزل عليك وتشرّبه صدرك ووعاه قلبك؟ هل ترى هذا الواضح، هذا البيان الفصل، هذا الكلام المُحكَم الذي تتلو آياته ويتلوها المؤمنون؟
مَن نزّله عليك، هو نفسه من سيُعيدكَ من حيث أُخرجت، هو نفسه سيعيدك وقال: رادُّك إلى (مَعاد) جعلها نكرة غير مُعرّفة، لأنّه مَعاد ليس كأيّ معاد، معاد يليق بك، معاد نصر وعزّة وتمكين (وهذا أحد الوجوه عند المفسّرين).
وكأنّه يقول له (إذا استقرّ عندك هذا) لزم أن تطمئن لذاك!
وهذه بالمناسبة من الوظائف الأساسية لقراءة تاريخ الأمم التي يقرّها القرآن: وكُلًّا نقصّ عليك من أنباء الرسل (ما نثبت به فؤادك) من تثبيت الفؤاد والاطمئنان في لحظات الخوف والجزع.
وقد ذكر الكنديّ في رسالته (الحيلة لدفع الأحزان) هذا النهج العلاجيّ:
"ومن لطيف الحيلة في ذلك تذكّر مُحزناتنا التي سلونا عنها قديمًا ومُحزنات غيرنا التي شاهدنا حزنهم عليها وسلوتهم عنها"
وهو نهج يُشبه تمامًا السلوان والمواساة التي قدّمها القرآن للرسول ﷺ في سورة الضحى.
وهذه الطريقة فعّالة لأنّ الخوف والجزع، يحصرنا بتفكير ضيّق يُسمّى بالعلاج النفسي Tunnel vision يتحوّل فيها إدراكنا كمن ينظر من خلال نفق، نحو مسار أو نهاية أحادية للأحداث وهذا يحرمنا أن نرى كل تلك المصادر والاحتمالات والتجارب المفيدة التي تحيط بنا.
فالّلهم لا تجعلنا أسرى عقولنا
فقراء في أفهامنا، جزعين لجهلنا
ولا تستدرجنا بالقول عن العمل
ولا تفتنّا باليأس بعد الأمل