من تمام الإيمان وشهود أسماء الله في كونه وأقداره، أن يشهد المُؤمن ألطاف الله ليس فيما يحصل فحسب، وإنّما أن يلتقط ألطافه فيما لا يحصل وكان بإمكانه أن يحصل أيضًا، ولكنّ الله كفاه (الكافي) وجنّبه أمورًا لم يعلم عنها شيئًا.
يُنبّهنا القرآن لهذا الملمح الإيماني في سورة الكهف كي لا يقع المؤمن فريسة فخّ الاستحقاق المُتوهّم لنجاحاته.
فصاحب الجنّتين حين اغترّ بما لديه من ثراء وسعة وبركة في جنّاته، يأتي القرآن على لسان صاحبه المؤمن، كي يُنبهنا للمُمكنات الإحصائية الأخرى لحاله الذي عليه:
إنّه يقول له من الصحيح أنّك اليوم تملك هاتين الجنّتين العامرتين بثمارها وخيراتها..
لكن، كل هذه الأحوال السليمة مُعرّضة لمصائب لا يُمكن السيطرة عليها، كأن يصبها حُسبانًا (عذابًا) من السماء، وحينها لن تكون هذه الأرض غير قابلة للزراعة فحسب، بل عندها لن تكون قابلة لأن يطأها إنسان أساسًا أو أن يمشي عليها أحدٌ بقدميه (صعيدًا زلقًا).
احتمال إحصائي آخر، كان بإمكان الماء الذي يُحيط اليوم بجناتك، أن تبتلعه الأرض وأن يضيع مُشتّتًا في أجوافها وحين سيستحيل عليك إخراجه أو استخراجه أو الاستفادة منه أنت وجناتك كلّها.
هذا مَشهَد مُتكرّر في حياة الناس اليومية، خاصّة مع "لسعة" الأدمغة والأذهان التي تسبّبت بها علوم الإدارة وكُتيبات النجاح المعنونة بـ (كيف تصير ثريًا؟) و (كيف تُصبِح ناجحًا؟) وهذا الوهم المغلوط -إحصائيًا كما تشير الدراسات- من أنّ "النجاح" حتمي لمن يتّبع مجموعة خطوات محدّدة سيقولها لك خبير النجاح في كتابه.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، انتشار كلّ هذه الخطابات المأزومة التي تُغذّي هذه الهواجس اللاواعية للبشر ورغبة الإنسان اليوم لتأليه نفسه Deification، وجعل نفسه إلهًا يظنّ أنّه بتدخلاته يُمكنه أن يُحيّد جميع المتغيرات، أن يصرف عن نفسه الأذى وأن يجلب لنفسه الخير عبر خطوات حتمية.
والوجه الآخر لهذه الرغبة العُصابية لتأليه الذات: سعي الإنسان النّاجح لتعميم تجربته على الآخرين وكأنّ وصوله لما هو عليه إنّما هُو نتيجة طبيعية لعقله وتدبيره واجتهاده (إنّما أوتيته على علمٍ عندي).
تُسمّى هذه الظاهرة بـ "الغطرسة المعرفية" Epistemic Arrogance كما يصطلح عليها نسيم طالب المُختص بالإحصاء الرياضي، وهذه الغطرسة تعبير عن مبالغة البشر بقدراتهم على التنبّؤ بالأشياء التي ستحصل، بسبب ثقتهم المُفرطة بالمعرفة التي لديهم (التي هي في الغالب ضئيلة ومحدودة جدًّا إذا ما قيست بعدد المتغيرات الإحصائية التي تتحكّم بالظاهرة).
ومن الدراسات الشهيرة التي تقصّت ظاهرة (الغطرسة المعرفية) ما أجراه باحثان من جامعة هارفارد طلبوا فيها من المشاركين الإجابة على أسئلة مُحدّدة عن طريق اختيار مدى رقمي لإجاباتهم ما يُعطي مرونة وأريحية بالإجابات (مثال: "كم عدد أشجار الخشب الأحمر في متنزّه الخشب الأحمر بكاليفورنيا؟" والإجابة تكون: "أنا متأكد بنسبة 98٪ أن هناك عدد بين (س) و (ص) من الأشجار").
اكتشف الباحثون أن المشاركين، على الرغم من تأكّدهم بنسبة 98٪ من إجاباتهم، كانوا مخطئين في 45٪ من الأحيان! ومن المفارقات الطريفة أنّ المشاركين بالدراسة كانوا من حملة ماجستير إدارة الأعمال MBA من هارفارد.
بمعنى آخر، اختار المشاركون مدى ضيّق للإجابات، فأخطؤوا. كان بإمكانهم أن يزيدوا المدى كي يشمل الأرقام الصحيحة، لكنّهم وقعوا في فخّ (الغطرسة المعرفية) حين بالغوا في تقدير قدرتهم على التخمين والتنبّؤ، ولو اختاروا مدىً أوسع -معترفین بجهلهم- لحقّقوا نتائج أفضل بكثير.
من المهم أن ندرك أنّ ما تشير له الدراسة هنا، هو التفاوت الكبير بين ما نعرفه وما نظنّ أنّنا نعرفه. نحن متغطرسون لأنّنا نعتقد أنّنا نعرف أكثر مما نعرفه حقًا.
تذكّرنا هذه الدراسات بالأية الكريمة في سورة الزمر عن غطرسة الإنسان وشعوره بالاستحقاق:
ثُمّ إذا خوّلناه نعمةً منّا.. قال إنّما أوتيته على علم
بل هي فتنة.. ولكنّ أكثرهم لا يعلمون
الواقع بحسب المنطق الإحصائي المُعقّد:
مُقابل كُل شخص ناجح يُحدّثك عن نجاحه على الشاشات، ثمّة 99 شخص آخر يأكلون السردين على العشاء، كانوا قد اتّبعوا نفس الخطوات لكنّهم فشلوا تمامًا وخسروا كلّ ما لديهم.
يُعيدنا هذا المثال إلى علم النفس الإدراكي والانحياز النفسي الشهير المُسمّى "انحياز النجاة" Survivorship bias إنّ قصص النجاح تُلغي الوعي الإحصائي بأولئك الذين لم يتمكّنوا من النجاة وهُم كُثر، كما تُلغي دور التوفيق الإلهي وعناصر أخرى مثل التوقيت المناسب وتهيّؤ الظروف وهي أمور خارجة عن السيطرة تلعب الدور الأكبر في تحقيق النجاح.
كما يُذكّرنا هذا بمفهوم (المكتبة المُضادة) Antilibrary لدى أمبرتو إيكو، فالأهم من الكُتب التي قرأتها: الكُتب التي لم تقرأها، والكتب التي تعي أنّك لا تعلم عنها شيئًا.
إنّ وَعيك بحدود معرفتك وإدراكك لجهلك هو ما يجعلك إنسان واعي حقًّا وليس العكس.