ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها.
فهذا صله بن أشيم يقول أحد أصحابه كنت أسمعه يقول بعد صلاة الفجر في دعاءه: «اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي لا يستحق أن يطلب الجنة».
وكلما عرف الإنسان ربه حق المعرفة عرف أن ما معه من البضاعة والطاعة مهما عظمت وكبرت وزادت لا تساوي شيء، ولو جاء بعمل الثقلين؛ لأنه أمام ربٍ سريع الحساب.
ها هو أبو بكر يدخل مزرعة أحد الأنصار ويرى طائرًا يطير من شجرة إلى أخرى، فيتأمل ويقول: "هنيئاً لك يا طائر! ترد الشجر وتأكل وتشرب وتموت ولا حساب ولا عقاب، يا ليتني كنت شعرةً في صدر عبدٍ مؤمن".
وهاهو عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- يخاطب نفسه كما يقول أنس بن مالك رضي الله عنه أني سمعته وبيني وبينه جدار وهو يحاسب نفسه، ويقول: "عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخٍ بخٍ، والله لتتقينَّ الله أو ليحاسبنك الله، ويكررها".
قال الحسن البصري –رحمه الله تعالى-: في قوله تعالى: (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة:2].
"هي نفس المؤمن لا تلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه، ويقول: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي والفاجر يمضي قُدماً لا يعاتب نفسه".
عباد الله: أرباب البصائر أشد ما يكونون ذليلين مستغفرين عقب الطاعات، فالاستغفار سمة المؤمنين كلما أذنبوا وأساءوا استغفروا ورجعوا إلى الله؛ لأنه وحده الغافر، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون) [آل عمران:135].
عباد الله: الاستغفار ليس للعاصين فقط، بل لأصحاب الطاعات، فالمصلون بعد إتمام الصلاة الخاشعة المطمئنة يستغفرون من كل نقص وزلل في الصلاة، وبعد رحلة الحج العظيمة والطواف والسعي ورمي الجمار، قال تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 199].
وبعد أن منَّ الله على نبيه بالنصر والتمكين والفتح المبين أمره بالاستغفار، قال تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [سورة النصر].
عباد الله: على المؤمن أن يحاسب نفسه، فالطاعة والفروض رأس المال، والمعاصي هي الخسائر، والنوافل هي الأرباح، وليعلم أنّ كل نَفَس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة يمكن أن يشتري بها كنزًا من كنوز الآخرة.
فإذا أصبح العبد وفرغ من صلاة الصبح ينبغي أن يُفرِّغ قلبه ساعة، فيقول لنفسه: ما لي بضاعة إلا العمر ولو توفاني الله لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوماً حتى أعمل صالحاً، ومن ثَم ينوي فعل الخيرات ليكون من الرابحين.
فهذا الربيع بن خثيم –رحمه الله تعالى-: كان له تحت سريره حفرة كلما رأى من نفسه إقبالاً على الدنيا نزل فيها، وكأنه في قبره، ويصيح ويبكي، وكأنه في عداد الموتى ويقول: ربّ ارجعون ربّ ارجعون، ثم يصعد من الحفرة ويقول: "يا نفس ها أنت في الدنيا فاعملي صالحاً".
ويقول إبراهيم التيمي –رحمه الله تعالى-: "مثّلت لنفس كأني في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأطوف في وديانها وأعانق أبكارها, ثم مثّلت لنفسي وكأني في النار آكل من زقومها وأشرب من حميمها، وأصيح بين أهلها, ثم قلت: يا نفس أي دار تريدين؟ فقالت: أعود إلى الدنيا فأعمل صالحاً كي أنال الجنة، فقلت: يا نفسي ها أنت في الدنيا فاعملي".
اللهم أجرنا من النار، واجعلنا من أهل الجنة يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه, وأشهد أن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الداعي إلى رضوانه وعلى آله وصحبه وجميع إخوانه.
وبعد:
عباد الله: لنستمع ونفقه ونتأمل في هذه الآيات المباركة. قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِرَامًا كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12]. وقال عز وجل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:16-18]. وقال تعالى: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية:29].