هذه الليلة هي أبرد ليلة تمر على أهل غزة منذ بداية الشتاء، الأطفال يتجمدون من شدة البرد وهم تحت اللحاف، فلا ملابس تدفئهم، ولا طعام يشبعهم، ولا لحف تغطيهم، ولا جدران تحميهم !! اللهم هوِّن هذا البرد على أهل الخيام، اللهم هون برد الشتاء على عبادك المستضعفين، اللهم ابسط دفء رحمتك عليهم يا رحمن يا رحيم !!
لقد مر عليَّ أكثر من أسبوع وأنا أطوف في الأسواق أطلب كيساً من طحين فلا أجد إلا أسعاراً خيالية، وأرقاماً فلكية، لا يستطيعها أحد !! لكم الله يا أهل غزة كيف تطيقون هذه الأهوال، وكيف تحتملون هذه الحياة القاسية، وأنتم لا تجدون ما تسدون به رمق أطفالكم، ولا ما يخفف عنهم وطأة هذا الجوع الذي ينهش أجسادهم الضعيفة !! يارب لقد ذل الأعزاء من أهل الكرامة، وأنت ربهم ومولاهم، فامنن عليهم بفرج عاجل، يطمئن قلوبهم المتعبة، ويحيي أرواحهم المنهكة !!
نستودعك يارب كل من لا مأوى له، وكل من لا طعام له، وكل من لا لباس له، وكل من لا دفء له، وكل من لا معيل له، وكل مبتلى، وكل مفقود، وكل مصاب، وكل محزون، وكل مكسور، وكل موجوع !! اللهم هوّن هذا البرد على أهل الخيام، اللهم ابسط دفء رحمتك عليهم، اللهم أطعم جائعهم، واكس عاريهم، وآمن خائفهم !!
لأول مرة منذ بداية الحرب، المجاعة تفتك بجنوب غزة بشكل لا يُصدَّق، والحياة تضيق بشكل لا يُوصف، والناس لا تجد كسرة خبز تُسكت بها بطون أطفالها الجائعة !! اللهم قد يئسنا من البشر، ومن رحمتك يارب لا نيأس، فأطعم اللهم جائعنا، وفرج اللهم كربتنا !!
والله ما بكينا من شدة القصف، وما بكينا من شدة الخوف، وما بكينا من شدة الفقد، وما بكينا من شدة الجوع، وما بكينا من شدة الوجع، والله ما بكينا إلا من شدة خذلان إخواننا لنا، وتفريطهم بنا، وتفرجهم علينا !! فاللهم بقدر الخذلان الذي ذقناه، والقهر الذي تجرعناه، والألم الذي فاض بنا حتى ملأ أرجاء الكون، اجعل عوضك الجميل لنا معجزة لا نتوقعها، وفرجك العظيم لا يخطر على بال بشر !!
طعامنا في غزة الخبز والزعتر، كلما ملَّ أطفالي منه، وتذمروا من كثرة تناوله، قلت لهم: أنتم في نعمة عظيمة، عندكم خبز وزعتر، والكثير من أهل غزة لا يجدونه، أهكذا تقابلون نعمة الله وتجحدونها، فيحمدون الله ويسكتوا !! يارب، يارب، يارب، لا تدع جائعاً في غزة إلا أطعمته، ولا خائفاً إلا أمنته، ولا مكسوراً إلا جبرته، ولا مبتلى إلا رحمته، ولا محزوناً إلا واسيته، ولا نازحاً إلا إلى بيته رددته، اللهم أجب دعاءنا ولا تردنا خائبين يارب العالمين !!
هل تعلمون كم مضى اليوم على حرب غزة !؟ لقد أكملت الحرب هذا الصباح يومها ال400، قد تقولون يا الله، ما أسرع مرور الأيام، وما أشد تقلب الزمان، وكأن الحرب قد بدأت بالأمس !! نحن في غزة لا نشعر بمثل ما تشعرون، فهذه الأربعمائة يوم مرت بثقلها وفقدها وأوجاعها وآلامها كأنها والله 400 عام أو تزيد، بل إن اليوم في غزة بألف يوم لو كنتم تشعرون !! ماذا عنك أخي المسلم بعد مضي هذه الأيام الطويلة؟، هل ما زلت تشعر بهذه المدينة المتعبة، هل ما زلت تتابع أخبارها، وتدعو لأهلها، أم أنك قد مللت منها ونسيتها !! طوبى لمن جعل غزة في قلبه وبين ضلوعه، حتى لو تركها الجميع فلا يتركها، وحتى لو تخلى عنها الجميع فلا يتخلى عنها، حتى تتخلى عنه روحه، وتتركه حياته !!
وجدت طفلي الصغير عبد الرحمن البالغ من العمر عشر سنوات، قد داوم على الصلاة في وقتها من غير حث مني ولا تعزير كما جرت عادتي معه !! تعجبت منه وسألته ممازحاً، ما هذا الايمان الذي نزل عليك فجأة، فقال لي، رأيت في المنام أنني بين الجنة والنار أقف على حبل رفيع، فجاء إلي أحدهم، وقال لي صلِّ يا عبد الرحمن كي تدخل الجنة، قالها ثلاث مرات، فوعدته أن أصلي وأقسمت له، فابتسم لي وانتهى الحلم، ثم قمت لصلاة الفجر، وداومت على الصلاة، ولن أتركها حتى أموت !! إذا كان هذا الطفل الصغير الغير مكلف قد انتبه على نفسه، واستيقظ من غفلته، وحافظ على الصلاة، أفلا تخجل من نفسك أيها العاقل المكلف وأنت تتكاسل عن صلاتك فلا تصلها أو تصلها في غير موعدها، ألا تخشى على نفسك أن تموت وأنت على هذه الحالة ؟!! مهما حصل لا تترك الصلاة ولا تؤخرها عن وقتها، اجعل بينك وبين الله باب مفتوح، وتذكر هذا السؤال دائماً: ما سلككم في سقر ؟! الجواب: قالوا لم نكُ من المصلين !! أسأل الله أن يهدي شباب وبنات المسلمين، ويرزقهم الهدى والتقى والعفاف والغنى !!
عندما يتشبث بك طفلك الصغير، ويبكي أمامك من شدة الجوع، ثم لا تجد ما تسد به جوعته، أو تسكت به معدته، حينها تتمنى لو تنشق الأرض وتبلعك، وتقول يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً !! لقد اشتدت هذه الحرب على أهل غزة وقست، وأبكت وأحزنت، وجوعت وأوجعت، فلا يدري هؤلاء المساكين أي وحش يجابهون، وحش المـوت، أم وحش الخوف، أم وحش الجوع، أم وحش العطش، أم وحش البرد، أم وحش الغلاء، أم وحش النزوح الذي لا يتوقف !! اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دُعيت به أجبت، وإذا سُئلت به أعطيت، اللهم لأجل هؤلاء الأطفال الصغار، ارفع عن غزة هذا البلاء، واكشف هذا الكرب، وأزح هذه الغمة، اللهم عاجلاً غير آجل يارب العالمين !!
أقسم لكم بالله يا أهل غزة، لن يخذلكم الله، ولن يترككم، ولن ينساكم، ولن يتخلى عنكم !! غداً سيأتي الفرج فجأة من حيث لا تحتسبون ولا تتوقعون، وستبكون من شدة السعادة والفرح، وستعرفون قدر رحمة الله بكم، وجميل لطفه، وعظيم كرمه، هذا وعد الله، ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً !!
يا الله قديش دماءنا صارت رخيصة في حسابات هذا العالم الرخيص !! فجر اليوم ارتقى أكثر من 90 إنسان جلهم من الأطفال والنساء في مجزرة عائلة نصر في بيت لاهيا، هذا الخبر لم يستحق أن ينتشر، لم يستحق أن تُسلط عليه الأضواء، لم يستحق أن يحرك قلوب الناس، لم يستحق أن يتصدر الترند، فهناك ما هو أهم من السخافات والتفاهات، التي ملأت عقول الناس، واستوطنت قلوبهم !! لا تحزنوا يا أهل غزة، فإذا كانت دماؤكم عند الناس رخيصة، فإنها عند الله غالية، أغلى من الدنيا وما فيها !!