مشهد يومي في مسرح الحياة : قرر أن يغفو قليلاً، ثم يستيقظ، ويعتلي المسرح ليؤدي مرةً أخرى دوره، يقف تحت الأضواء ويقول عباراته المعتادة، الجمهور يُصفق له، يُسدل الستار، تتاح له الفرصة أن يُصبح غريباً لبعض الوقت ثم يعود إلى ذاته، مع انهُ لن يعود الشخص نفسه الذي تركه خلفه .
لكن مهما ظننت أنك قد فهمت شخصاً آخر ومهما احببته، يستحيل أن تحظى بنظرةٍ جليّة إلى ما بداخل قلبه، يُمكنك أن تُحاول، لكن سينتهي بك المطاف وأنت تسبب الألم لنفسك، يمكننا رؤية ما بداخل قلوبنا فقط، ولن يتسنى لنا ذلك إلا إذا عملنا جاهدين وتحلّينا بالعزيمة الصادقة، لذلك في النهاية، فإن الإمتياز الوحيد المكفول لنا هو أن نتصالح مع أنفسنا تماماً، ونقبل ما نحنُ عليه بصدق، وإذا كنت حقاً ترغب في مراقبة الآخرين، فإن خيارك الوحيد هو أن تنظر إلى نفسك بعمقٍ وتجرّد، هذا ما أؤمن به .
ستضيع قبل أن تصل، وستخطئ مراراً قبل أن تعرف بهجة الصواب، وستشعر بالوحدة لوقتٍ طويل قبل أن تأنس بصحبة ذاتك، الطريق إلى نفسك قد يكون مليئاً بالفوضى والعزلة والدروس والقرارات السيئة، قد تضمحلّ قدرتك مراراً على معرفة ما يجب فعله، والوجهة التي عليك اختيارها، كل شيء يتغير في غمضة عين، حتى أنت ستنظر يوماً ما إلى انعكاس لا تكاد تتبين نفسك فيه، ماذا ستفعل عندما تضمحلّ الخطوط وتتداخل الهويّات، وتشعر بالتيه يسلب منك قدرتك على الإختيار؟ ربما عليك أن تستمر فحسب، تختار بضعة أشياء جيدة تقوم بها، كمرساةٍ تُذكرك بوجهتك النهائية، أشياء تجعلك أفضل حتى في أسوأ أحوالك، عندما تخرج من العواصف مُتسلحاً بالأشياء التى منحتك ثباتاً من نوعٍ ما، حينها ستشكر نفسك على هذا الالتزام، مهما كان الأمر مُرهقاً .
لكنني كافحت بإستمرار حتى لا أكون جاداً، الجدّية لا تعني مقاربة الحقيقة مهما كانت غامضة، لكن الموت كان واقعة حقيقية، جدية، مهما كانت نظرتك له، أخذ هذا التناقض بخناقي، وجعلني أضيع في دوائر لا تنتهي .
الآن، عرفت فعلاً ما الذي يعنيه الألم، الألم ليس في تلقّي الضرب حتى الإغماء، وليس في انغراز قطعة من الزجاج في إحدى قدميك تستوجب نقلك إلى المستشفى لرتق جرحك، الألم هو هذا الشيء الذي يحطم قلبك، الألم هو الموت من دون القدرة على البوح بأسرارنا لأي كائن، إنه ألم يشلّ ذراعيك، وفكرك، ويجعلك غير قادر على إدارة رأسك على المخدة وغير قادر على النوم .
يجذبني دائماً الصامتين الذين يسكتون كلما أرادوا شرح ما يودون قوله، الهادئين الذين يجلسون في آخر الصف وسط الضجة والأصوات العالية، اللامرئيين الذين لا ينتبه لهم أحد وكأنهم غير موجودين "كالأشباح” مثلاً، الخجولين الذين لا يعرفون كيف يبدؤون بصنع حديثٍ ما، الذين يرتبكون كلما حاولوا التقرّب من شخصٍ ما، العاديين الذين لا يعرفون شيئاً غير انهم عاديين فقط، البسيطين الذين يفرحون بأبسط التفاصيل وأدقها، الباردين الذين يُخبؤون وراء كل هذا البرود سببًا ما، الهاربين من المكان واللامكان، الذين إتخذوا الهروب هو الحل، الضائعين الذين يرون انهم غارقين في مسمى "الضياع” ، الفارغين الذين يواجهون أيامهم بالفراغ وفعل اللاشيء، المُملين الذين يقولون هكذا لأنفسهم دائماً الا أن أحاديثهم هي الأفضل، البائسين الذين أستبدلوا الأمل بذلك القطار في نهاية النفق، المجهولين الذين دائماً بلا هوية، الذين يجهلون حتى أين تكون وجهتهم، الغريبين الذين يشعرون أينما ذهبوا بالغربة، والذين سيبقى شعورهم هكذا للأبد، كنتم دائماً أنتم، وستظلون أنتم بعيداً عن صخب العالم وزيفه .
لا توجد بداخلي شحنة حياة حقيقية، هذا هو الشيء الذي أفتقده كثيراً، أشعر أنني لستُ سوى رعشة من الضجر، عندما أُحاول أن أفعل شيئاً، أرغب في أن أقوم بشيء، وأصاب بتلك الرعشة، شخص آخر ربما لا يُلقي بالاً برعشةٍ مثل هذه، وينساها على الفور، أما أنا فأحملها طويلاً في قلبي .
كانت حياتي مُكتظة بمعارك الآخرين، مُثقلة بشقاء أكبر بكثير ممّا يستحق جسدي الهش ووجهي المُتعب، لقد أردت أن أُشيحه عن الناس وأبقى وحيداً، ولكن هذا لم يُسلّمني من مكر الحياة وشرورها، كنتُ مجبراً على الخروج إلى الدنيا لأضمن قوتي أمام الجميع، ولم أحظى يوماً بيدٍ تمُد المساعدة لي مجاناً .
في هذهِ الغرفة وجدتني أنسحب إلى هناك، إلى تلك البقعة المُتوارية في كل شخص، بقعة الصمت والإنطواء، فراغ غامق اللون يخص المرء ولا يعني أحداً غيره، ألوذ به عندما يكون الخارج عبثياً أو غير مفهوم، كأن هناك ستارة سريّة تحت تصرفي، أشدها عند الحاجة، فأحجب العالم الخارجي عن عالمي، أشدها بسرعة وبشكل تلقائي عندما تستعصي ملاحظاتي وأفكاري على الإنكشاف بكامل وضوحها، عندما يكون حجبها هو الطريقة الوحيدة لصيانتها، لم أنشغل بشيء هنا ولم أنشغل بأحد، ورغم ذلك أشعر بأسى بالغ يعتريني ولا أعرف سببه .