«لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح ولو أنه أشد العيوب وأعظم الرذائل، ما لم يظهره بقول أو فعل، بل يكاد يكون أحمد ممن أعان طبعه على الفضائل، ولا تكون مغالبة الطبع الفاسد إلا عن قوة عقل فاضل».
«..بيد أن هناك محاولة للنيل مني، بل للقضاء علي يجب أن أردها بقوة، وأن أفصح ما يكتنفها من دناءة، وهي محاولة الإغارة على تراثي الأدبي، ووضع اليد الظالمة عليه في صفاقة لا أعرف لها مثيلاً في تاريخ الآداب والدعوات ليكرهني من شاء، أما أن تختطف كتاباتي ويوضع عليها اسم غير اسمي، ثم يتواصى الحاقدون بالإرجاف علي وإظهاري للملأ كأني أنا الناقل عن غيري؛ فهذه هي الجريمة التي تطلق عقيرتي بالصباح ، ولا أقبل فيها هدنة، عجباً لا ينتهي من عجب وفتوناً ليس يبلى من فنون!
لكن لماذا مضت بي سورة الغضب على هذا النحو؟ إن هذا الموضوع ينبغي أن يطوى وأن ينسى وقلت لنفسي: ألا تتعلمين الإخلاص لله من مسلك الإمام الشافعي الذي ملأ طباق الأرض علما ثم قال: وددت لو نشر هذا العلم دون أن يعرف صاحبه؟
فلأفترض أن سحب النسيان غطت علي فلم يعرف أحد من الخلق أني سبقت إلى كذا، أو برزت في كذا، إنَّ ذلك لا يضير أمراً يقصد وجه الله فيما يكتب، بل ربما كان ذلك أعون على تصحيح نيته وتنقية وجهته، وقالت لي نفسى: لكن هؤلاء بعد أن تعاونوا على طردك من مكانك، وأرادوا إظهارك في ثوب الساطي على غيرك، فكيف يسمعون خطبك ويقرأون كتبك ثم ينتحلونها لأنفسهم، ويجعلونك في أعين الناس الناقل المقلد؟!
وقلت لنفسى: ما تزالين تتعلقين بالخلق، وتذهلين عن الخالق! وأخيراً قررت أن أطوي هذه الصفحة، سائلاً ربي أن يغفر لي، ولمن جار علي، أو استهان بي، والله المستعان».
«الصديق المخلص عزيز، إن كان أصدقاء المنفعة كثيراً، فإن الذي يحبك لفضلك، وتحبه لفضله، حباً يبقى ما بقيت الفضيلة، عزيز المنال. قال يونس: اثنان ما في الأرض أقل منهما، ولا يزدادان إلا قلة: درهم يوضع في حق، وأخ يسكن إليه في الله.
وهذا الصديق هو الذي حثك الشاعر على التمسك به، فقال: وإذا صفا لك من زمانك واحد فاشدد عليه وعش بذاك الواحد
وكلما قضى الإنسان مرحلة من عمره في الاعتبار والتجارب، ازداد علماً بأن أصدقاء الفضيلة لا تسمح بهم الأيام إلا قليلاً».
«كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسبي الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه
فدعانا إلى الله لتوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء
ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.. فعدد عليه أمور الإسلام.. فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا».
«وأخيراً بين من نحسن إليهم، وبين من يستكثرون علينا أن نكون في مكان يجيئهم منه إحساننا، ويدر عليهم خيرنا، والجريمة التي ارتكبناها والتي جعلت قلوب هؤلاء تنحرف عنا أننا أسعفناهم يوم احتاجوا، وأننا لما قدرنا على ذلك لم نبخل به وكما كانت جريمة ابن آدم الصالح أن الله قبل عمله ولم يقبل عمل أخيه، كذلك كانت جريمة أبي بكر أنه أنفق على قريبه مِسْطَح فكان جزاؤه أَنَّ مِسطحاً ما إن سمع الإشاعات الكاذبة تدور حول عائشة حتى أسرع يعين على ولي نعمته ويروج مع الأفاكين مقالة السوء، بدل أن يردّ جميل قريبه بالدفاع عن عرضه!
إن في طباع نفر من الناس كنوداً يعز على الدواء، ولست أدري أأكثر الناس معلولون بهذا الداء، أم تلك قلة عكرت صفو الحياة، كما يعكر عذوبة الماء القليل من الملح، أياً ما كان الأمر فإنَّ الشكاة من هذا البلاء قديمة جديدة. كان مالك بن أنس يشكو على عهده قلة الإنصاف وهو عهد التابعين، وفي هذا الطغرائي بعد مئات السنين يقول:
غاض الوفاء، وفاض الغدر واتَّسعت مسافة الخلف بين القول والعمل.
وإنَّني لأتلفت يمنة ويسرةً وأتفرّس فى الجزاء الذى لقيته من الناس، فأحس غصة، والله المستعان».