في انتظار رحمات السماء :
وهاهي ذي حشائش ضفاف النيل التي كانت تغازله في الموسم الماضي من خريف كان قبل ما يقارب العام، اصفرت وماتت وأصبح صوتها نشاذاً عن ذلك الجمال الذي كانت تصدره في المواسم الماضية، تتراقص على أنغام الصيف وتحترق تحت شمس البلاد التي تفعل بها كما تفعل بجباه أهلها السُّمر، هاهي ذي ترنو إلى الضفاف لا لمغازلة النيل بل لترتوي وتنقذ ما تبقى منها.
تنتظر الخريف هكذا في شوق وتلهُّف عجيب؛ إذ أن فيه حياتها، تودُّ عودة الأيام الخوالي لتتمايل وتنثني مع الرياح لا لتتقصف أطرافها مع رياح السموم هذه، لفحةُ نسماتها كأنها لفحةٌ من جهنم، وهي إن كانت تمرُّ هكذا بوجوهنا فهي ربما تكون تذكيراً لتلك النار التي نستعيذ بالله منها، أقول على الأقل هنا لنا ملاجئ وظلال وارفة نحتمي بها من نسمات الصيف هذه لكن هناك لا مفرّ إلَّا أن تغمرنا رحمة اللّٰه.
حدثتني حشائش النيل وأخبرتني أنها تعيش القصة كل عام مع تعاقب المواسم ومجيء الصيف، توقن دائماً أنَّ الجفاف موسم لابد أن تعيشه، لكنها تنتظر الغيث بإيمان حقيقي أنه آتٍ، حدثتني أنها لم تقنط قط من رحمات السماء، تعلم أن خلف اليباس ليناً وعجاف المواسم يعقبها خيرٌ كثير، وتعلم أن الرحمة وإن تأخرت فهي لن تعكف عن زيارتها أبداً، تطول المُدة وتنقضي فصول الشِّدة، ويهطل مطر غزير يروي عطش الأشجار ويغني هذه الأرض الكريمة.
بذاتِ الإيمان تؤمن الطيور كل صباح أنها تغدو خماصاً وتروح بطاناً، ولو أنّها أيقنت باللاجدوى ويئست من رحمة الله التي تحيط بمجاهيل حياتها ورزقها غير المعلوم لما استمرت في السعي ولما أطلقت جناحها بهذه القوة، طائرةً بكل ما أوتيت من قوة فتهتدي في نهاية اليوم لكل الخير وتعود سعيدة لأنّها لم تقنط ولم تقعد عن السعي.
والنمل في بناء منازله لا يخرج من هذا الناموس- الإيمان بالله ورعايته- و مخلوقات الأرض كافة تسعى مع إيمانها الحثيث بأن الله يحيط بها.
مع ذلك الإيمان باحياء الأرض بعد موتها وتيسير رزق جميع المخلوقات وتحقق الإيمان عياناً على مرّ الأزمان كيف تقنط يا ابن آدم من رحمة الله، وكيف تحمل هم نفاد الرزق وخزائن ربك لا تنفد، ولك في هذه الأرض الميتة عظة واعتبار وخير مثال، أتموت روحك وغيث السماء في الطريق؟ أتحمل هم الرزق وخير ربك خير وفير؟ أتُجهد عقلك بالتحليل والتفكير وربك عليم قدير؟
تخبرنا كل الكائنات في هذا الكون وتقول :لا تخرج يا ابن آدم من ناموس الكون المؤمن برحمة الله، لا تشذ عن سيمفونية الإيمان بغيث السماء الذي يأتي ولو بعد مواسم طوال، تقول لنا لا تقطعوا طريق الرحمة والرزق بالقنوط وسوء الظن يا رفاق.
#دعاء_عبدالمنعم