هذا الفصل من كتاب الشيخ إبراهيم اللاحم مهم ونافع. وقد ذكر فيه ١٩ مثالا لأحاديث صححها المعاصرون ولم يعرجوا على عللها؛ إما جهلا أو تجاهلا.. وهي مما ضعفه الأئمة النقاد السابقون. وفي هذا الفصل لمحات للبون الشاسع في النظر للعلل وفهمها وتأثيرها بين الأئمة الحفاظ وبين مخالفيهم من المعاصرين.
. وهذا مثال آخر لعدم فهم الكلام، وحمله على ما قد يحتمل لفظا لكن يتعذر عقلا!
هذه قصيدة للشاعر أبي دهبل الجمحي، وقد ذكر خروجه من مكة على ناقة جسرة مع أذان المغرب متجها جنوبا، وذكر الأماكن التي مر بها بدأ من يلملم .. وانظر تعليق المحقق!
الدنيا فخ، والناس كعصافير، والعصفور يريد الحبة، وينسى الخنق! قد نسي أكثر الخلق مآلهم، ميلا إلى عاجل لذاتهم، فأقبلوا يسامرون الهوى، ولا يلتفتون إلى مشاورة العقل. فلقد باعوا بلذة يسيرة خيرا كثيرا، واستحقوا بشهوات مرذولة عذابا عظيما. فإذا نزل بأحدهم الموت، قال: ليتني لم أكن! {يا ليتني كنت ترابا} ! فيقال له: {آلآن} ؟! فوا أسفا، لفائت لا يمكن استدراكه .. 👆
عن يزيد بن الأسود رضي الله عنه قال: شهدت مع النبي ﷺ حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته انحرف، فإذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه، فقال : «علي بهما»، فجيء بهما ترعد فرائصهما. فقال: «ما منعكما أن تصليا معنا؟» فقالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا. قال: «فلا تفعلا؛ إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة».
رواه أحمد وأهل السنن، وصححه الترمذي.
في الحديث نهي للحاضر عن ترك الصلاة معهم كأنه غير مسلم. وجلوسه أيضا يشغل الداخلين ويريبهم؛ ما شأنه لا يصلي!
وفي بعض الجوامع التي يصلى فيها على الجنائز، يأتي من صلى الفريصة مبكرا في المساجد المجاورة، ثم يقفون داخل المسجد أو في فم بابه، ويتحدثون بأصوات مرتفعة والناس في الفريضة!
وهذا خطأ، فكل من حضر المسجد؛ فليصل مع الناس سواء صلى قبلهم جمع تقديم أو في مسجد آخر، أو ليبق في سيارته حتى تنتهي الصلاة.
زعموا أن رجلا شابا غزلا خرج يطلب حمارين لأهله، فمر على امرأة منتقبة جميلة في النقاب، فقعد بحذائها وترك طلب الحمارين، وشغله ما سمع من حسن حديثها، وما رأى من جمالها في النقاب، فلما سفرت عن وجهها؛ إذا لها أسنان مكفهرة منكرة مختلفة، فلما رآها؛ ذکر حماريه فقال: «ذكرني فوك حماري أهلي»! فذهب قوله مثلا.
«الأمثال» للضبي ص ١٢٦. وقال أبو هلال العسكري: «يضرب مثلا للرجل يبصر الشيء، فيذكر به حاجةً كان قد نسيها، وأصله أن رجلا خرج ..» ثم ذکر نحوه. «جمهرة الأمثال» ٣٩٠/١.
ورأى رجل امرأة في شارة وبزة [حسن هيئة ولباس]؛ فظن بها جمالا، فلما سفرت إذا هي غول!
فأظهرها ربي بمنٍّ وقدرة .. عليّ ولولا ذاك مت من الكرب فلما بدت سبحت من قبح وجهها .. وقلت لها الساجور خير من الكلب!
«البيان والتبيين» ٦٣/٣.
الساجور: خشبة تجعل في عنق الكلب، يقال: كل كلب مسوجر.
قلت: والظاهر أن كثيرا ممن يضعن صورا للفاتنات في صفحاتهن من جنس هذه! وكذلك من يضعون صورا حسنة..
فيهيم الجاهل بهذه الصورة، وتهيم خلف صاحب الصورة، ولو رآى كل منهم صاحبه؛ لربما أبدع لنا مثلا كهذا!
فيا عبد الله ويا أمة الله، اتقوا الله! فوضع صور المتبرجات حرام، والنظر إليها كذلك، والتسبب في النظر إليها يُحملكم آثام من نظر إليها..
وكان القاضي عبيدالله العنبري مزاحا ظريفا.. وهذا خبر لطيف في تأنيب من لم يعرف مآثر سلفه ويرويها
قال وكيع: حدثني أحمد بن أبي خيثمة، عن عبد الله بن عائشة؛ قال: حدثني رجل من بني ليث؛ قال: شهد عند عبيد الله بن الحسن رجل بشهادة، فكتب اسمه ولم يخله ليختبره، فجرى ذكر أبيات الأسود بن يعفر النهشلي: ولقد علمت سوى الذي أنباتني ... أن السبيل سبيل ذي الأعواد إن المنية والحتوف كلاهما ... يوفي المخارم يرقبان سوادي لن يأخذا مني وفاء رهنية ... من دون نفسي طارفي وتلادي فعصيت أصحاب الصبابة والصبا ... وأطعت عاذلتي ولان قيادي ماذا أومل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد أهل الخورنق والسَّدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد الأبيات.. فقال: النهشلي: ومن يقول هذا الشعر؟
فقال عبيد الله بن الحسن: الأسود بن يعفر. قال: ومن الأسود بن يعفر؟! قال: رجل من قومك، له مثل هذا النبه، وهذه الحكمة، لا تعرفه! يا حكم؛ خله حتى أسأل عنه؛ فأني أراه ضعيفا». «أخبار القضاة» ١١٠/٢.
وقال المبرد: «وكان عبيد الله أحد الأدباء الفقهاء الصلحاء. وزعم ابن عائشة قال: عتبت عليه مرة في شيء، قال: فلقيني يدخل من باب المسجد -يريد مجلس الحكم- وأخرج، فقلت معرِّضا به: طمعت بليلى أن تريع وإنما ... تقطع أعناق الرجال المطامع. فأنشدني معرضا تاركا لما قصدت له: وباينت ليلى في خلاء ولم يكن ... شهود على ليلى عدول مقانع.
وكان ابن عائشة يتحدث عنه حديثا عجيبا، ثم عرف مخرج ذلك الحديث.
وذكر ابن عائشة، وحدثني عنه جماعة لا أحصيهم كثرة: أن عبيد الله بن الحسن شهد عنده رجل من بني نهشل على أمر -أحسبه دَينا- فقال له: أتروي قول الأسود بن يعفر: نام الخلي فما أحسن رقادي؟ فقال له الرجل: لا! فرد شهادته، وقال: لو كان في هذا خير لروى شرف أهله».
«الكامل» ٨٢/٢.
وذكر الخبر بنحوه أبو الفرج في «الأغاني» ١٦/١٣ من طريق الأصمعي وأبي عبيدة، وذكر أن القاضي سوار بن عبدالله العنبري.
قال الخطيب البغدادي: «حدثني الأزهري، قال: حدثنا أبو حَفْص عُمر بن زَكَّار بن أحمد بن زَكَّار السَّمَّار، قال: حدثنا عُمر بن الحسن قال حدثنا ابن أبي الدُّنيا، قال: حدثنا إبراهيم بن عبدالملك، قال: شَتَم رجلٌ عُبيدالله بن الحسن العنبري القاضي، فقال عبيدالله وقَبَض على لحيَتِهِ: شَيْبتي تمنعني من أن أرد عليك».
قال عبد الرحمن بن مهدي: «كنا في جنازة فيها عبيد الله بن الحسن -وهو على القضاء- فلما وضع السرير جلس وجلس الناس حوله. قال: فسألته عن مسألة؛ فغلط فيها، فقلت: -أصلحك الله- القول في هذه المسألة كذا وكذا، إلا أني لم أرد هذه، إنما أردت أن أرفعك إلى ما هو أكبر منها. فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: إذا أرجع وأنا صاغر، إذا أرجع وأنا صاغر؛ لأن أكون ذنبا في الحق أحب إلي من أن أكون رأسا في الباطل».
❁ عبيدالله بن الحسن القاضي هو العنبري قاضي البصرة زمن الخليفة أبي جعفر والمهدي.
قال العجلي: «كانت امرأة جميلة بمكة -وكان لها زَوْجٌ- فنظرت يوماً إلى وَجْهها في المرآة، فقالت لزوجها: أترى يرى أحد هذا الوجه لا يفتتن به؟ قال: نعم. قالت: من؟ قال: عبيد بن عُمير. قالت فَأْذَنْ لي فيه فلأفتننه! قال: قد أذنتُ لك! قال: فَأَتَتْهُ كالمستفتية، فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام، قال فأسفرت عن مثل فلقة القمر، فقال لها: يا أَمَةَ الله! فقالت: إني قَدْ فتنت بك؛ فانظر في أمري؟ قال: إني سائلك عن شيء فإن صَدَقْتِ نَظَرْتُ في أمرك، قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك. قال: أخبريني لو أن مَلَكَ المَوْتِ أتاك يقبضُ روحكِ أكان يسرك أنى قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صَدَقْتِ. قال: فلو أدخلت فى قبرك فأجلست للمساءلة أكان يسرك أني قد قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال صَدَقْتِ. قال: فلو أن النَّاسَ أعطوا كتبهم لا تدرين تأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أني قضيتُ لك هذه الحاجة؟ قالت: اللَّهُمَّ لا. قال: صدقت. قال: فلو أردت المرور على الصراط ولا تدرين تنجين أم لا تنجين؛ كان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: فلو جيء بالموازين وجيء بك لا تدرين تخفّين أم تثقلين كان يسرك أني قضيتُ لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: فلو وقعت بين يدي الله للمساءلة كان يسرك أني قَضَيْتُ لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صَدَقْتِ. قال اتَّقِ الله يا أَمَةَ الله؛ فقد أنعم الله عليك، وأحسن إليكِ. قال: فرجعت إلى زوجها، فقال : ما صنعتِ؟ قالت: أنت بطال ونحن بطالون، فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة.
قال: فكان زوجها يقول: مالي ولعبيد بن عمير! أفسد علي زوجي كانت كل ليلة عروساً؛ فصيرها راهبة!
«الثقات» ص٣٢٢.
وفيه: «ويُروى عن مجاهد، قال: نفخر على التابعين بأربعة: قارئنا عبد الله السائب، ومفتينا ابن عباس، ومؤذننا أبو محذورة، وقاضينا عُبيد بن عمير، يعني: أهل مكة».
الإحسان للموتى من الوالدين والأقارب بالوقف أنفع لهم من الصدقة المجردة من وجوه منها: أن الوقف صدقة جارية بخلاف الصدقة المجردة. ومنها؛ أن والديك وأقاربك بعد رحيلك ورحيل طبقتك من الإخوة والأقارب لا يجدون من يتصدق عنهم لأنك أنت أقرب الأقارب لهم. ومنها أنها بر وصلة رحم منك غير منقطعة حتى بموتك فلا تزال بارا وصولا كلما جاء والديك وأقاربك نفع من مساهمتك